ومعالجة المقريزى للجوانب المتعدّدة للدّراسة التاريخيّة، كما تبين فى هذا الكتاب، معالجة متوازنة، لا فضل لجانب منها على الآخر، ولا تميّز لأحدها أو لبعضها من وجهة نظر المؤلف. فهو يعامل الأحداث السياسية والعسكريّة معاملة متعادلة، ويتحدث عن التطورات الاجتماعية والاقتصادية بمثل ما يتحدّث به عن الأحداث الدينيّة أو الإداريّة، بحياد وموضوعية، دون أن يخصّ أيّا من هذه الجوانب بعناية تبرز بعضها دون البعض الآخر، أو تدلّ على ميل من جانب المؤلف إلى الاهتمام بناحية دون غيرها.
ولعلّ السرّ فى هذا التوازن فى المعالجة أن المقريزى أراد أن يكون كتابه الذى خصّصه لمرحلة بعينها شاملا للموضوعات التاريخيّة المتنوعة ليمدّ الدارس بالمادة الغزيرة التى تتيح له معرفة شاملة متنوعة تمكنه من إشباع اتّجاهه الثقافى من مورد قيّم للمعرفة، متعدّد الاهتمامات.
***
وفى ضوء هذه المادّة العلميّة الغزيرة أود أن أضع بين يدى القارئ بعض الحقائق التاريخية التى يساعد هذا الكتاب على إبرازها، والتى كان بعضها فى حاجة إلى ما يكشفه أو ما يزيده وضوحا وبيانا.
وأول هذه الإشارات يتعلّق بشخصيّة الحاكم بأمر الله وعصره. فقد ذاع بين الدّارسين والمؤرخين اتّهام الحاكم بالتقلّب فى أحواله والشّذوذ فى تصرّفاته، وأن هذا الشّذوذ وذلك التقلّب قد أدّيا إلى أن يحفل عصره بالاضطرابات، مما أفقد النّاس الاطمئنان على أنفسهم وأموالهم. لكنّ المقريزى يتيح لهؤلاء فرصة إعادة النّظر فى هذه الأحكام التى أدانت الحاكم، وجعلت منه مثالا وأنموذجا للشذوذ والاستبداد جميعا.