يعتمدون عليه ويرجعون إلى رأيه. فأحضره الوزير، وفاوضه في أمر اليازوري، وأخذ رأيه فيما يعمل مع؛ فأشار عليه بأن يحسن للخليفة أن يقلده القضاء، ظنا منه أنه إذا تقلد القضاء فإنه يقع في أمر كبير، ويشغله ذلك عن ملازمة السيدة، فيجد الوزير سبيلاً إلى استخدام ولده مكانه، ويتقوى له الأمر فيه، ويملك جهة الخليفة والسيدة. وكان قد تكلم في قاضي القضاة من أيام أبي سعيد، وذكر أن أمور الناس ناقصة في حكوماته، وأن له غلمانا قد استحوذوا على الحكم، وهم الذين يوقفون أمور الناس؛ فاستخدم أبو سعيد شاهداً يعرف بابن عبدون، خليفة القاهرة، وتقدم إلى قاضي القضاة ألا يفصل حكما بين اثنين إلا بحضوره. وضبط ابن عبدون أمر الحكم ضبطا شديدا؛ وكان الخصوم يجتمعون بباب القاضي والشهود بين يديه، فلا يمضي حكما إلا في دعوى بين اثنين، وما يحتاج إليه من إقامة بينة، أو منازعة أمرأة مع بعل لها في فرض، وما يجري هذا المجرى. وأما في تثبيت أو قصص مستعجمة الحكم، وما يحتاج فيه إلى مناظرات ومنازعات فلا يتكلم في شيء من ذلك إلا عند حضور ابن عبدون؛ وحجج الناس يحتاط عليها في قمطر، وتحمل بين يدي القاضي؛ فإذا حضر ابن عبدون أحضرت وفصل الحكم فيما بين أصحابها. وما زال كذلك حتى حضر إليه خصم في مرات، فخاف عليه وتشفع إليه بأصدقائه، فلم يعره فرضة يوما حتى خرج من مجلس قاضي القضاة وركب، فتقدم إليه وقبل ركابه، وخضع له وتلطف في أمره، فلم يلتفت إليه؛ فعاد إلى من خرج إليه من الشهود وسألهم سؤاله، فانتهره. فلما أيس منه وثب عليه بخنجر وخرق به بطنه، فخر إلى الأرض ميتا. وأخذ الرجل إلى أبي سعيد، فنكل به وقطع يديه ورجليه، وضرب عنقه. ثم استخدم أبو سعيد بعد ابن عبدون القضاعي وابن أبي زكرى وأقامهما خليفتي قاضي القضاة، وأمرهما بسلوك طريق ابن عبدون في الأحكام؛ فلم يقوما مقامه، وكانا يجاملان القاضي؛ فعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل ابن عبدون، إلا في فصل الأحكام فإنها كانت لا تنفصل إلا بحضورهما. فثقل ذلك على القاضي لاستيلاء غلمانه عليه، واتهامه أن أمور الناس واقفة، وأنه لا ينفذ له حكم ولا أمر ولا نهي.