وكان من جميل أفعاله أنه لما قتل المفسدين من الأجناد والعربان وغيرهم أطلق الخراج للمزارعين، ولم يأخذ منهم شيئاً ثلاث سنين، حتى صلحت أحوال الفلاحين. واستغنى أهل مصر في أيامه، ودرت عليهم أخلاف النعم بعد توالي الشدائد الكبيرة، ومقاساة الألم. وكثر ترداد التجار في أيامه إلى مصر بعد نزوحهم عنها، وخروجهم لشدة البلاء والجور فيها.
وكانت مدة تحكمه بالديار المصرية إحدى وعشرين سنة. وكان عزوف النفس شديد البطش، عالي الهمة عظيم الهيبة، حسن التأتي جميل السياسة، مظفراً، سعيد الجد، سخيا، مفضالا. قصده علقمة بن عبد الرزاق العليمي، فلما وافى بابه شاهد أشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم وعلماءهم على بابه وقد طال وقوفهم ومقامهم، ولا يصلون إليه. فبينا هو كذلك إذ خرج أمير الجيوش يريد الصيد، فخرج في أثره وأقام معه حتى رجع من صيده؛ فعندما قاربه وقف على تل من رمل، ورمى برقعة كانت في يده، وأنشد:
نحن التّجار، وهذه أعلاقنا ... درّ، وجود يمينك المبتاع
قلّب، وفتّشها بسمعك، إنّما ... هي جوهرٌ تختاره الأسماع
حتى أناخوها ببابك، والرّجا ... من دونك السّمسار والبيّاع
فوهبت ما لم يعطه في دهره ... هرمٌ، ولا كعبٌ، ولا القعقاع
وسبقت هذا النّاس في طلب العلا ... والناس بعدك كلّهم أتباع
يا بدر، أُقسم، لو بك اعتصم الورى ... ولجوا إليك، جميعهم، ما ضاعوا
وكان بيد بدر باز، فدفعه لأحد مماليكه وجعل يستعيد الأبيات، وهو معه، إلى أن استقر في مجلسه. فلما اطمأن قال للحاضرين عنده؛ من أحبني فليخلع عليه. فبادر حينئذ الحاضرون، ولم يبق منهم إلا من ألقى له ما قدر عليه، حتى صار إليه منهم ما حمله على سبعين بغلاً عندما خرج من المجلس؛ ومع ذلك أمر له أمير الجيوش من ماله بعشرة ألاف درهم.