فلما صار التابوت في وسط الإيوان هم الخليفة بأن يترجل، فسارع إليه القائد والمرتضى، وصاح الناس بأجمعهم: العفو يا أمير المؤمنين. عدة مرار. فترجل الخليفة على الكرسي، وصلى عليه، ورفع التابوت فمشى وراءه، وركب الخليفة الفرس على ما كان عليه؛ ونزل التربة ظاهر باب النصر ووقف على شفير القبر إلى أن حضر التابوت. واستفتح ابن القارح المغربي وقرأ:" وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ " الآية. فوقعت من الناس موقعا عظيما، وبكوا، وبكى الخليفة، وهم بنزول القبر ليلحده بيده؛ ثم أمر الداعي فنزل وألحده والخليفة قائم إلى أن كملت مواراته، ثم ركب من التربة والناس بأجمعهم بين يديه إلى قصره.
وأخرج من قاعة الفضة بالقصر ثلاثون حسكة، وثلاثون بخورا مكملة، وخمسون مثقال ند وعود، وشمع كثير، فأشعلت الشموع إلى أن صلى الصبح وأطلق البخور، واستقر جلوس الناس؛ فصلى القاضي بالناس، وفتح باب مجلس الأفضل المعلق بالستور الفرقوبي الذي لم يكن حظه منه إلا جوازه عليه قتيلا. ورفعت الستور، وجلس الخليفة على المخاد الطرية التي عملت في وسطه؛ وسلم الناس على منازلهم، وتلي القرآن العظيم. وتقدمت الشعراء في رثائه إلى أن استحق الختم فختم. ثم خرج القائد والأمراء إلى التربة فكان بها مثل ما كان بالدار من الآلات والبخور. وعمل في اليوم الثاني كذلك.
وكان عمر الأفضل يوم مات سبعاً وخمسين سنة، ومدة ولايته ثمانية وعشرون عاماً