فما اتسع له أن يتتبع الأمراء ولا ينكر عليهم ليرجعوا إلى أخيه، لعلمه بتغير الخليفة عليه، مخافة أن يفسد أمره ظاهرا وباطنا. فحضر إلى الخليفة يوم سلام، على عادة الوزراء، وتقدم وقال: يا مولانا، صلوات الله عليك، وصل كتاب أخي يتذمم من طول مقامه خارج القاهرة وأسفه على ما يفوته من خدمة مولانا بالمباشرة، ويسأل الفسحة له في العودة إلى بابه الكريم فقال: مرحبا وأهلا، وهذا كان رأينا، ونحن مشتاقون إليه، وإنما قصدنا رضاك فيما رتبته له. يقدم على بركة الله. فكوتب عن الخليفة بالعود وأن يرتب في ولاياته من يرضاه. فامتثل ذلك.
ودخل القاهرة؛ فجلس الخليفة له في غير وقت الجلوس، فمثل بين يديه، وأكرمه وأدناه، وخلع عليه بالتشريف المفخم.
فلما دخل شهر رمضان، وفيه السماط كل ليلة بقاعة الذهب، ويحضر الوزير وإخوته وأصحابه؛ فحضر المأمون وأخوه المؤتمن السماط أول ليلة، فأكرمهما الآمر بما أخرجه لهما مما كانت يده فيه، وأرسل رسالة إلى المؤتمن ليستأنس بحضوره السماط مع أخيه؛ فلم يتسع لهما مع هذه المكارمة الانقطاع.
وحضرا ثاني ليلة فزاد في إكرامهما، ثم أمر بأن يدخل المأمون لمؤاكلته خاصة دون أخيه، فدخل إليه؛ ولم يتقدمه أحد من الوزراء بمثل ذلك، يعنى بهذه المنزلة. وخرج هو وأخوه وأكد عليهما ألا ينقطعا، وخلع عليهما من داخل الدار من الثياب الدارية. ثم حضرا ثالث ليلة، فاستدعى المأمون إلى الخليفة، فلما جلس معه على المائدة قال قد جفونا المؤتمن، واستدعاه، فدخل، وصارا في قبضته. وكان قد رتب لهما من يأخذهما؛ فعند خروجهما للمضي قبض عليهما واعتقلهما عنده في خزانة، وسير بالحوطة على دورهما. ثم أمر بإحضار الشيخ الأجل أبي الحسن بن أبي أسامة، كاتب الدست، لينشيء شيئاً في شأنهما يقرؤه على المنبر غداً، فوجد الشيخ أبو الحسن بمصر لعيادة مريض؛ فتقدم إلى والي القاهرة في الليل بأن يمضي إلى مصر لإحضاره. فظن والي القاهرة أنه طلب لغير ذلك، وكان يقال له سعد الدولة الأحدب، فمضى إليه وأزعجه من مكانه، وسبه أقبح سب، وأراد إحضاره إلى القاهرة ماشياً. فأحضره إلى الخليفة وهو ميت لا حراك به،