للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلمّا صار التابوت فى وسط الإيوان همّ الخليفة بأن يترجل، فسارع إليه القائد والمرتضى، وصاح الناس بأجمعهم: العفو يا أمير المؤمنين. عدّة مرار. فترجّل الخليفة على الكرسىّ، وصلّى عليه، ورفع التابوت فمشى وراءه، وركب الخليفة الفرس على ما كان عليه؛ ونزل التربة ظاهر باب النّصر ووقف على شفير القبر إلى أن حضر التابوت.

واستفتح ابن القارح المغربى وقرأ: «وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ» (١) الآية. فوقعت من الناس موقعا عظيما (٢)، وبكوا، وبكى الخليفة، وهمّ بنزول القبر ليلحده بيده؛ ثم أمر الدّاعى فنزل وألحده والخليفة قائم إلى أن كملت مواراته، ثم ركب من التّربة والنّاس بأجمعهم بين يديه إلى قصره.

وأخرج من قاعة الفضّة بالقصر ثلاثون حسكة، وثلاثون بخورا مكمّلة، وخمسون مثقال ندّ وعود، وشمع كثير، فأشعلت الشموع إلى أن صلّى الصّبح وأطلق البخور، واستقرّ جلوس النّاس؛ فصلّى القاضى بالنّاس، وفتح باب مجلس الأفضل المعلّق بالسّتور الفرقوبى الذى لم يكن حظّه منه إلا جوازه عليه قتيلا. ورفعت السّتور، وجلس الخليفة على المخادّ الطّريّة التى عملت فى وسطه؛ وسلّم النّاس على منازلهم، وتلى القرآن العظيم.

وتقدّمت الشعراء فى رثائه إلى أن استحقّ الختم فختم. ثم خرج القائد والأمراء إلى التّربة فكان بها مثل ما كان بالدّار من الآلات والبخور. وعمل فى اليوم الثانى كذلك.

وكان عمر الأفضل يوم مات سبعا وخمسين سنة، ومدّة ولايته ثمانية وعشرون عاما.


= - ونزع السعر فى أيامه بمصر، فأمر مشارف الأهراء بفتح المخازن وبيع القمح بثلاثين دينارا لكل مائة إردب. فقال يا سيدى: القمح كل إردب بدينار تبيع أنت بثلاثين دينارا المائة. فانتهره وقال: يا شيخ، تريد أن يسمع عن أيامى شدة تعرف بشدة ابن عرس - وكان هذا المشارف يعرف بابن عرس - بع كما أمرتك فعندى من البذر ما يقوم بالناس عشر سنين لا سيما القمح. فامتثل ذلك وباع بثلاثين دينارا كل مائة إردب، وكان الناس يشترون ويبيعون على باب المخزن كل إردب بدينار، فحصل لهم من هذا المتجر مال عظيم وحسنت أحوالهم، وكثرت الأموال فى أيدى الرعية مدة أيامه. وكان لا يولى عملا من الأعمال إلا لمن هو كفء له، ويضع الأشياء فى مواضعها، مع كثرة موافاته بما يعمله الولاة … للرعية وتبسطه للعدل، فكان الولاة فى أيامه لا تمديد واحد منهم إلى مظلمة خوفا منه فإنه كان إذا بلغه عن أحد منهم ميل عن سيرة العدل نكل به، فاستقامت لذلك الأمور وحسنت الأحوال، ومات وأمور الدولة قد أسندها إلى عدة من رؤساء أصحابه، فأسند أمور العساكر جميعا وإمارة الباب إلى الأمير حسام الدين أفتكين، ورد أمور الرعية وشكاواهم وظلاماتهم والأخذ والعطاء والمجلس إلى القائد أبى عبد الله ابن فاتك، ورد أمور الدواوين والأموال والعمال إلى ابن أبى الليث، ورد أمور الأجر والصناعات إلى ابن أبى البيان، ورد ديوان المكاتبات والنظر فى الأحكام والأعمال وما يخص الشريعة إلى الشيخ أبى الحسن بن أبى عثمان .. ».
(١) سورة الأنعام: آية: ٩٤.
(٢) فى الأصل موقع عظيم.