للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويقال إنّ أباه كان من جواسيس الأفضل بالعراق، وأنه مات ولم يخلّف شيئا، فتزوّجت أمه وتركته فقيرا، فاتصل بإنسان يعلّم البناء بمصر، ثم صار يحمل الأمتعة بالسّوق بمصر، وأنه دخل مع الحمّالين يوما إلى دار الأفضل فرآه خفيفا رشيقا حسن الحركة حلو الكلام، فأعجب به، فاستخدمه مع الفراشين بعد ما عرف بأنه ابن فلان، فلم يزل يتقدّم عنده حتى كبرت منزلته، وعلت درجته (١).

وهذا ليس بصحيح فإنّه من أجناد المشارقة، وقد تقدّم أن أباه مات فى زمن الأفضل بعد ما ترقّت أحوال ولده، وأنه كان ممّن يعدّ من أماثل أهل الدولة. ورثى بعدّة قصائد.

وتقدّم أن المأمون كان ممّن يخدم المستنصر وأنه الذى لقّبه بالمأمون. على أن المشارقة زادوا فى التشنيع وذكروا أنّه كان يرشّ الماء بين القصرين (٢)، وكل ذلك غير صحيح.

وكان المأمون شديد المهابة فى النفوس وعنده فطنة تامة وتحرّز وبحث عن أخبار النّاس وأحوالهم، حتى إنه لا يتحدث أحد من سكّان القاهرة ومصر بحديث فى ليل أو نهار إلا ويبيت خبره عند المأمون، ولا سيّما أخبار الولاة وعمالهم. ومشت فى أيامه أحوال البلاد وعمرت، وساس الرّعايا والأجناد وأحسن سياسته، إلاّ أنه اتّهم بأنه هو أقام أولئك الذين قتلوا الأفضل وأعدّهم له وأمرهم بقتله ليجعل له بذلك يدا عند الخليفة الآمر، ولأنه كان يخاف أن يموت الأفضل فيلقى من الآمر ما يكرهه لأنّه كان أكبر الناس منزلة عند الأفضل ومتحكما فى جميع أموره. وكان مع ذلك محبّبا إلى الناس لكثرة ما يقضيه من حوائجهم ويتقرّب به من الإحسان إليهم، ويأخذ نفسه بالتدبير الجيد والسّيرة الحسنة، بحيث لو قدّر موته لزار النّاس قبره تبرّكا به.

واتّهم أيضا بأنه هو الذى قتل أولاد الأفضل وأولاد أخيه الأوحد وأولاد أخيه المظفر، وكانوا نحو مائة ذكر ما بين كبير وصغير، فقتلوا بأجمعهم، ولم يبق منهم سوى صغير


(١) ورد هذا الكلام فى كتاب الكامل لابن الأثير: ٢٢٤:١٠. ونقله النويرى فى نهاية الأرب كما فعل المقريزى هنا ثم نفاه كل منهما، ويستند النويرى فى نفيه إلى ابن جلب راغب، محمد بن على بن يوسف، الذى قال: إن ابن الأثير وهم فى وفاة والد المأمون، إذ أنه مات فى سنة ٥١٣ والمأمون إذ ذاك مدبر دولة الأفضل .. ثم يضيف إلى ذلك: «وأكثر الناس يذكرون ما ذكره ابن الأثير». نهاية الأرب: ٢٨.
(٢) قائل هذا عماد الدين صاحب «البستان الجامع لتواريخ الزمان»، كما ذكر النويرى. وقد نشر C.Cahen هذا الكتاب ملخصا فى مجلة: Bull.et.Or.Inst.Damas ،١٩٣٨ .