للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويخاف من شاور أنّه إذا استقرّت قدمه فى مصر خاس (١) فى قوله ويخلف بما وعد. ثم قوى عزمه على إرسال الجيوش، فتقدّم بتجهيزها وإزاحة عللها.

واتّفق أنّ الواعظ زين الدّين بن نجا الأنصارى (٢) سمع بسعة أرزاق مصر فقدم إليها فى وزارة الصّالح ابن رزّيك فأقبل عليه وحصل له من إنعامه وممّا أخذه له من العاضد فى ثلاث سنين ما يناهز عشرين ألف دينار، وسوّغه عدّة دور بتوقيع. فسمع بالزّاهد أبى عمرو ابن مرزوق يتحدّث النّاس عنه بأنّه مهما قاله لهم وقع، وأنّه يركب كلّ سنة فى نصف شعبان حمارا له ويأتى معه جماعة إلى ذيل الجبل ويودّعونه ويمضون، فيطلع أبو عمرو إلى الجبل؛ ويلقاه النّاس فى اللّيلة الثانية ويجتمعون كاجتماعهم للعيد، ويركب حماره، والنّاس تحته، وينتظر، وينزل بعد صلاة المغرب إلى مسجده بقصد زيارته وقد تجمّع النّاس فى الأسطحة والدّكاكين والطّرقات، والشّيخ يعمل الختمات. فوصل إليه وأقام حتى انفضّ النّاس، فخلا به وتعرّف إليه؛ فكان ممّا قال له: أتعرف بالشّام أحدا يقال له شيركوه. فقال: نعم، أمير من أمراء نور الدّين. فقال: هذا يأتى إلى هذه البلاد ويملكها، وكلّ ما تراه من هذه الدّولة يزول حتّى لا يبقى له أثر عن قريب. وانصرف ابن نجا عن الشّيخ أبى عمرو وقد تعجّب من قوله.

فلمّا قضى إربه من القاهرة وعاد إلى دمشق اجتمع بالملك العادل نو الدّين وحكى له قول الشيخ أبى عمرو؛ فقال له: لا تخبر أحدا بذلك. ومضى اليوم وما بعده، إلى أن قدم شاور على السّلطان نور الدّين وقوّى عزمه على تجهيز العساكر معه؛ فوقع اختيار السّلطان على الأمير أسد الدّين شيركوه بن شاذى بن مروان، أحد أمرائه، فاستدعاه من حلب (٣)، فوصل إلى دمشق مستهلّ رجب منها، وأمره بالمسير إلى مصر مع العساكر صحبة شاور،


(١) خاس بالعهد يخيس خيسا بسكون الياء وفتحها خان وغدر ونكث. القاموس المحيط.
(٢) زين الدين أبو الحسن على بن إبراهيم بن نجا الفقيه الحنبلى الواعظ، ويعرف بابن نجية؛ أحب الوعظ واشتغل به فعرف به. أرسله نور الدين محمود فى مهمة إلى بغداد، سنة ٥٦٤، فكساه الخليفة خلعة احتفظ بها ليلبسها فى الأعياد. واقتنى ابن نجا أموالا عظيمة حتى قيل إنه كان فى داره عشرون جارية للفراش، وكان يقدم فى داره من الأطعمة الكثيرة الجيدة ما لا يقدم فى دور الملوك، ومع هذا مات فقيرا سنة ٥٩٩ فكفنه أصحابه. كتاب الروضتين: ٣١٢:١: حاشية: ٣؛ وفيات الأعيان: ٢٣٩:١.
(٣) حيث كان ينوب عن نور الدين محمود الذى اتخذ دمشق قاعدة أولى لحكمه منذ دخلها فاتحا فى سنة تسع وأربعين وخمسمائة.