للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فامتنع وقال: لا، أمشى بألف فارس، إلى إقليم فيه عشرة آلاف فارس ومائة شينى فيها عشرة آلاف مقاتل وعندهم أربعون ألف عبد لخمس خلفاء، وهم مستوطنون فى أوطانهم قريبة منهم خزائنهم، ونأتى نحن من تعب السّفر بهذه العدّة القليلة. فتركه وأرسل إلى ابن نجا، فلمّا جاء قال له: حديث الرّجل الزاهد الذى بمصر أخبرت به أحدا؟ فقال:

معاذ الله؛ والله ما سمعه منىّ أحد سوى السّلطان. فقال: امض إلى أسد الدّين شيركوه واحك له الخبر. فمضى إلى شيركوه وقصّ عليه الحديث بنصّه، فطابت نفسه للسّفر (١).

وسار العسكر وصحبته شاور يوم الاثنين خامس عشر جمادى الأولى، وقد أقر نور الدّين شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه وينتقم له ممّن ثار عليه. وخرج نور الدّين إلى أطراف بلاد الفرنج ممّا يلى دمشق بعساكر ليمنع الفرنج من التعرّض لأسد الدّين؛ فكان قصارى أمر الفرنج أن يمتنعوا من نور الدّين ويحفظوا بلادهم.

وأخذ شيركوه فى سيره إلى مصر على شرقىّ الشّوبك حتى نزل أيلة، وسار منها إلى السّويس (٢)؛ فلم يدر ضرغام، وقد وصل إليه رسل الفرنج فى طلب مال الهدنة المقرّر لهم فى كل سنة على أهل مصر وهو ثلاثة وثلاثون ألف دينار وهو يدافعهم ويماطلون، إلاّ بطيور البطائق (٣) قد سقطت من عند أخيه الأمير حسام الدّين، متولى بلبيس، فى يوم الأحد


(١) يذكر أبو شامة غير هذا إذ يقول فى هذه المناسبة: «وكان هوى أسد الدين فى ذلك، وكان عنده من الشجاعة وقوة النفس ما لا يبالى معه بمخافة؛. وأبو شامة يستند فى هذا إلى ابن الأثير وإلى العماد الأصفهانى. قارن: كتاب الروضتين: ٣٣٢:١؛ الكامل: ١١١:١١ - ١١٣.
(٢) يقول ابن واصل: «وكان الطريق إذ ذاك شرقى الكرك والشوبك على عقبة أيلة إلى صدر وسويس ثم إلى البركة». مفرج الكروب: ١٣٨:١. وصدر بفتح الصاد وسكون الدال قلعة فى الطريق بين أيلة والسويس تركزت أهميتها فى قيمتها الاستراتيجية. والبركة هى بركة الجب، جب عميرة، وهى أيضا بركة الحجاج، إذ كان الحجاج يتجمعون عندها قبل خروجهم إلى الحج. وكانت الجيوش الذاهبة إلى الشام تتجمع عندها أيضا. وهى تقع على مسافة «بريد» من القاهرة، من شمالها، أى على مسافة اثنى عشر ميلا.
(٣) المقصود به الحمام الذى كان يستخدم فى نقل الرسائل البطائق. وقد بالغ الخلفاء ورجال الدولة على اختلاف درجاتهم فى اقتنائه واعتمدوا عليه فى تبليغ الرسائل عند الحاجة إلى الإسراع فى هذا، وقد بلغ ثمن الطائر الواحد من هذا النوع سبعمائة دينار، وقيل إن طائرا منها جاء من خليج القسطنطينية إلى البصرة بلغ ثمنه ألف دينار. ومن طريف استخداماته أن العزيز بالله الفاطمى ذكر لوزيره يعقوب بن كلس أنه ما رأى القراصية البعلبكية وأنه يحب أن يراها، وكان بدمشق حمام من مصر وبمصر حمام من دمشق، فكتب الوزير لوقته بطاقة يأمر فيها من هو تحت أمره بدمشق أن يجمع ما بها من الحمام المصرى ويعلق فى كل طائر حبات من القراصية البعلبكية ويرسلها إلى مصر ففعل ذلك، فلم يمض النهار حتى حضرت تلك الحمائم بما علق عليها من القراصية، فجمعه الوزير يعقوب بن كلس وطلع به إلى العزيز بالله فى يومه، فكان ذلك من أغرب الغرائب لديه. صبح الأعشى: ٣٨٩:١٤ - ٣٩١.