للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكتب القاضى الفاضل إلى نور الدّين محمود بن زنكى كتابا بأن يقرّ شيركوه عنده بمصر وأنّه فوّض إليه الوزارة وأمر الجيوش، تاريخه سابع عشرى ربيع الآخر، وكتب العاضد علامته بين سطريه الأوّلين بخطّه «الله ربّى»؛ فعاد الجواب بالامتثال (١).

وسلك أسد الدّين مع العاضد مسالك الأدب حتّى أعجب به، ومال إليه. وركب إلى مصر فرآها مشوّهة بالحريق وقد تلفت فيها أماكن وسلمت أماكن، وتشعّث الجامع؛ فشقّ عليه، وعاد. وقد حضر إليه الأمير ابن ممّاتى والقاضى الفاضل، فأمر بإحضار أعيان المصريّين الذين جلوا عن مصر فى الفتنة وصاروا بالقاهرة، فتغمم لما نزل بهم وسفّه رأى شاور فيما فعله، وأمرهم بالعود إلى مصر. فشكوا ما حلّ بهم من الفقر وذهاب الأحوال وخراب المنازل، وقالوا: إلى أىّ موضع نرجع وفى أىّ مكان نأوى. فقال: لا تقولوا هذا، وعلىّ بإذن الله حراستكم وإعادتها إليكم بما كانت عليه وأحسن؛ فاستدعوا منىّ كل مالكم فيه راحة، فهى بلدى وربّما أسكن فيها بينكم. فشكروا له ودعوا.

وأمر فنودى على النّاس بالرّجوع إلى مصر، فتراجعوا إليها شيئا بعد شيء.

وجعل أسد الدّين اجتماعه بالخليفة العاضد فى الشبّاك على العادة. فأوّل ما اجتمع به قال له الأستاذ صنيعة الملك جوهر، وكان أكبر الأستاذين وأفصحهم لسانا، وهو قائم على رأس العاضد: يقول لك مولانا لقد كنّا نؤثر مقامك عندنا أوّل طروقك بلادنا، ولكن أنت تعلم الموانع عنه؛ ولقد تيقّنّا أنّ الله ﷿ ادّخرك لنا نصرة على أعدائنا.

فقال أسد الدّين شيركوه: يا مولانا - بإمالة اللاّم - والله لأنصحنّك فى الخدمة ولأجعلنّ


= - وهادى دعاة المؤمنين، أبى الحارث شيركوه العاضدى، عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته. سلام عليك، فإنه يحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلى على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين، والأئمة المهديين، ويسلم تسليما». وتجد النص الكامل لمنشور تولية أسد الدين شيركوه الوزارة، وهو من إنشاء القاضى الفاضل، فى صبح الأعشى: ٨٠:١٠ - ٩٠.
(١) يذكر أبو شامة أنه كثيرا ما كان يوجد فى كتب نور الدين إلى العاضد التعريض بإنفاذ أسد الدين، ولو أمكنه المجاهرة بالقول لقال. فمن بعض مكاتباته: «وقد افتقر العبد إلى بعثته، وأعوز عسكره يمن نقيبته، واشتد حزب الضلال على المسلمين لغيبته، لأنه ما يزال يرمى شياطين الضلال بشهابه الثاقب، ويصمى معقل الشرك بسهمه النافذ الصائب». كتاب الروضتين: ٤٣٧:١. وسيرد بعد قليل ذكر شيء من ذلك. ويعلق أبو شامة على موقف نور الدين يقول: «لعل نور الدين إنما أقلقه كون أسد الدين وزر للعاضد فخاف من ميله إلى القوم وإلى مذهبهم، وأن يفسد جنده عليه بذلك السبب. هذا إن صح ما نقله ابن أبى طى. والله أعلم». نفس المصدر.