للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصحابيِّ- رضي اللَّه عنه- قال، لَمَّا كُفَّ بصره، جعل خيطاً في مُصَلاَّه إِلى بابِ حُجْرته، ووضع عنده مِكْتَلاً فيه تَمْرٌ وغير ذلك، فكان إِذا سأل المِسْكِين أخذ من ذلك التَّمْر، ثم أخذ من ذلك الخَيْط حتى يأخذ إِلى باب الحُجْرة، فيناوله المِسْكِين، فكان أهله يقولُونَ:

نَحْنُ نَكْفِيكَ، فيقولُ: سَمِعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ مُنَاوَلَةَ المِسْكِينِ تَقِي مِيتَةَ السُّوءِ» انتهى «١» .

وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ... الآية.

العقيدةُ أنَّ السيئات لا تبطل الحسنَاتِ، فقال جُمْهُورُ العلماء في هذه الآية: إِن الصدقة التي يعلم اللَّه من صاحبها أنه يمنُّ بها أو يؤذِي فإنها لا تُتقبَّلُ صدَقَةً، وقيل: بل يجعل اللَّه للمَلَكِ علَيْها أمارةً، فهو لا يكتبها، قال ع «٢» : وهذا حسنٌ لأن المانَّ المُؤْذِيَ لم تكُنْ نيَّته خالصةً للَّه سبحانه، فلم تترتَّب له صدقةٌ، فهذا هو البطلانُ بالمَنِّ والأذى، وهما لا يبطلان صدَقَةً غيرها سالمةَ النية.

ثم مثَّل اللَّه سبحانه هذا الَّذي يَمُنُّ ويؤذي بحَسَب مقدِّمه نيته بالذي ينفقُ رياءً، لا لوجْه اللَّه/، والرِّيَاءُ: مصدرٌ من «فَاعَلَ» من الرؤية: كأنّ الرياءَ تظاهر، وتفاخر بين من لا ٦٨ ب خير فيه من الناس.

قال المَهْدَوِيُّ: والتقدير: كإِبطال الذي ينفقُ ريَاءً.

وقوله تعالى: وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يحتمل أنْ يريد الكافر أو المنافق إِذْ كلٌّ منهما ينفق ليقال: جَوَاد، ثم مثَّل سبحانه هذا المُنْفِقَ رياءً بِصَفْوَانٍ عليه ترابٌ، فيظنه الظانُّ أرضاً منْبِتَةً طيِّبةً كما يظنُّ قومٌ أنَّ صدقة هذا المرائي لها قَدْر، أو معنًى، فإِذا أصاب الصَّفْوَانَ وابلٌ من المَطَر، انكشف ذلك التُّرَاب، وبقي صَلْداً، فكذلك هذا المرائي، إِذا كان يوم القيامة، وحضرت الأعمال، انكشَفَ سرُّه، وظهر أنه لا قَدْر لصدَقَاته، ولا مَعْنَى، والصَّفْوَانُ: الحَجَر الكبيرُ الأملَسُ، والوَابِلُ: الكثير القَوِيُّ من المَطَر وهو الذي يُسَيِّلُ وجْهَ الأرْضِ، والصَّلْدُ من الحجارة: الأملَسُ الصُّلْب الذي لا شيْء فيه، ويستعار للرأسِ الذي لا شَعْرَ فيه.

وقوله تعالى: لاَّ يَقْدِرُونَ يريد: الذين يتفقُونَ رياءً، أي لا يقدرون على الاِنتفاع


(١) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (٣/ ٢/ ٥٢) .
(٢) ذكره ابن عطية (١/ ٣٥٧) .

<<  <  ج: ص:  >  >>