للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ع «١» : وهذا هو التأويلُ الراجحُ، وتأمَّل قولَهُ تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ فإنها عبارةٌ تقتضي أنَّ هؤلاءِ محتومٌ علَيْهم مِنْ أوَّلِ أمرهم ولذلك تردَّدوا، ولَيْسَتْ هذه العبارةُ مِثْلَ أن يقول: لاَ يَغْفِرُ الله لَهُمْ، بل هي أشَدُّ، فتأمَّل الفَرْقَ بيْنَ العبارَتَيْنِ فإنه من دقيقِ غَرَائِبِ الفَصَاحَةِ الَّتي في كتاب الله سبحانه.

[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣٨ الى ١٣٩]

بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩)

وقوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ... الآية: في هذه الآيةِ دليلٌ مَّا على أنَّ التي قبلها إنما هي في المُنَافِقِينَ، ثم نصَّ سبحانه مِنْ صفاتِ المنافِقِينَ على أشدِّها ضرراً، وهي موالاتُهُم الكافِرِينَ، واطراحهم المُؤْمنينَ، ونبَّه على فسادِ ذلكَ ليدعه مَنْ عسى أنْ يَقَعَ في نَوْعٍ منه مِنَ المُؤْمنين غَفْلَةٌ، أوْ جهالةً، أوْ مسامحةً ثم وَقَفَهُمْ سبحانه على جهة التوبيخَ، فقال: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ والإستكثار، أي: ليس الأمرُ كذلك فإن العزَّة للَّه جميعاً يؤتيها مَنْ يشاء، وقد وَعَدَ بها المؤمنينَ، وجعل العاقبة للمتَّقين، والعزَّةُ أصلُها الشِّدَّة والقُوَّة ومنه: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ [ص: ٢٣] أي: غلبني بشدّته.

[[سورة النساء (٤) : آية ١٤٠]]

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠)

وقوله سبحانه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ ... الآية: مخاطبةٌ لجميعِ مَنْ أظهر الإيمان من محقِّقٍ ومنافقٍ لأنه إذا أظهر الإيمان، فقَدْ لزمه امتثال أوامر كتاب اللَّه تعالى، والإشارةُ بهذه الآية إلى قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام: ٦٨] إلى نحوِ/ هذا من الآيات، والكتابُ في هذا الموضعِ القرآنُ، وفي الآيةِ دليلٌ قويٌّ على وجوبِ تجنُّبِ أهْلِ البِدَعِ والمعاصِي، وأَلاَّ يجالَسُوا، وقد قيل: [الطويل]

عَنِ المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ مُقْتَدِ «٢»

وهذه المماثلةُ لَيْسَتْ في جميع الصفاتِ، ثم توعَّد سبحانه المنافِقِينَ والكافرين بجمعهم في جَهَنَّم، فتأكَّد بذلك النهْيُ عن مجالستهم وخلطتهم.


(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٢٤) .
(٢) ينظر البيت في «العزلة» للخطابي ص (٦٩) وينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ١٢٦) .

<<  <  ج: ص:  >  >>