ولذا فإن الله تعالى جعل ما كانوا عليه من دين، وعقيدة، ومنهاج، وعبادة وسلوك؛ هو الحق الذي يجبُ اتباعه، قال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} الآية. وقال تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} الآية.
فالله سبحانه وتعالى جعلهم متبوعين، فمن جاء بعدهم فهو تابع لهم. ومن هنا جاءت كلماتُ أئمة أهلِ العلم في أنه لا يجوز الخروج عن ما كانوا، وإن اختلفوا على قولين فلا يجوز إحداث قول ثالث، لأن الحق لا يخرج عنهم؛ بل إن شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ- والذي عُرِفَ بسعة استقرائه لمسائل العلم - يقرِّرُ أنه لا يمكن أن ينفرد أحد الأئمة عن الباقين ويكون الصواب معه إلا وقد اعتمد على أثر جمع من الصحابة أو أحدهم. "منهاج السنة"(٥/ ١٧٨).
وابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- يعزو كثرة الاختلاف بين أهل العلم لعدم التقيّد بهذا المنهج؛ إما لعدم العلم بالآثار، أو تقليد الأئمة، فيقول:"فلو اتفقت كلمتهم على ذلك وانقاد كل واحد منهم لمن دعاهُ إلى الله ورسوله، وتحاكموا كلهم إلى السنة وآثار الصحابة؛ لقل الاختلاف وإن لم يعدم من الأرض". أعلام الموقعين ٣/ ٢٢٦.
ولعل تشكيل مدارس أهل -على النحو المعروف- أَضعَفَ من الأخذ بآثار الصحابة؛ بل أَضْعَفَ من الأخذَ بالسنة. وهذا ما حذَّر منه الأئمة بقولهم:"خذوا من حيث أخَذْنَا".
ولا يشك عاقل أن افتراق الأمة إلى بضع وسبعين فرقة سببه الأعظم هو ترك هذا المنهج المعصوم، كما أخبر بذلك المصطفى - عليه الصلاة والسلام -.
وأعتقد أن الأمة لا يمكن أن تنهض من كبوتها إلا بالعودة إلى ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم -، قال تعالى:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}. فكل جهد للإصلاح لا ينطلق من هذا الأساس فهو جهد ضائع، فاقتصادٌ في سنة خير من اجتهادٍ في بدعة.
لذا كان من واجب أهل العلم العناية بآثار الصحابة - رضي الله عنهم -، ودراستها بتمييز ما يثبت عنهم من غيره، للحفاظ على الدين، ونبذ الاختلاف فيما لم نعلم أنهم اختلفوا فيه؛ فيرد إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -.