للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ورَحَل المأمُونُ يُريدُ بَلَدَ الرُّوم، فغَيَّرُوا زِيَّهُم، وحَلَقُوا شُعُورَهُم، وتَرَكُوا لُبْس الأقبية، وتَنَصَّرَ كَثِيرٌ منهم ولَبِسُوا زَنَانِير، وأَسْلَمَ منهم طَائِفَةٌ، وبَقِي منهم شِرْذِمَةٌ بحَالِهم وجَعَلُوا يَحْتَالُونَ ويَضْطَرِبُونَ، حتى انتدب لهم شَيْخٌ مِن أَهْلِ حَرَّان فَقِيهٌ، فقال لهم: قد وَجَدْتُ لكم شَيْئًا تَنْجُون به وتَسْلَمُون من القَتْل، فحَمَلُوا إليه مالًا عَظِيمًا من بَيْتِ مَالٍ لهم؛ أحْدَثُوه مُنْذُ أيَّام الرَّشِيد إلى هذه الغَايَة، أعَدُّوه للنَّوَائِب، وأَنا أَشْرَحُ لَكَ أَيَّدَكَ الله السَّبَبَ في ذلك، فقال لهم: إِذَا رَجَعَ المأمُونُ من سَفَره، فقُولُوا له نحن الصَّابِئُون، فهذا اسْمُ دِينٍ قد ذَكَرُه الله - جَلَّ اسْمُهُ - في القُرْآن (١)، فانْتَحِلُوه فأَنْتُم تَنْجُون به.

وقُضِيَ أَنَّ المأمُونَ تُوفِّي في سَفْرَتِه تلك بالبَذَنْدُون (٢)، وانْتَحَلُوا هذا الاسْم منذ ذلك الوَقت، لأنه لم يكن بحَرَّان ونَوَاحِيها قَوْمٌ يُسَمَّون بالصَّابِئَة. فلمَّا اتَّصَلَ بهم وَفَاةُ المأمُون، ارْتَدَّ أَكْثَرُ من كانَ تَنَصَّرَ منهم، ورَجَعَ إِلى الحَرْنَانِيَّة، وطَوَّلُوا شُعُورَهُم حَسَبَ ما كانُوا عليه قَبْلَ مُرُورِ المأمُون بهم، على أنَّهم صَابِئُون ومَنَعَهُم المُسْلِمُون من لُبْس الأَقْبِيَة، لأنَّه مِنْ لُبْسِ أصْحَابِ السُّلْطان. ومَنْ أَسْلَمَ منهم لم يُمْكِنْه الارْتِدَادُ خَوْفًا من أنْ يُقْتَل (٣).


(١) يَقْصِد الآيات ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الآية ٦٢ سورة البقرة]. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الآية ٦٩ سورة المائدة]. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [الآية ١٧ سورة الحج. وانظر كذلك، M. TARDIEU "Sabiens coraniques et 'Sabiens de Harran" JA ٢٧٤ (١٩٨٦) PP. ١.٤٤.
(٢) البَذَنْدُون. قَرْيَةٌ بينها وبين طَرَسُوس يومٌ من بلاد الثَّغْر، تُوفِّي بها الخليفة المأمون، سنة ٢١٨ هـ / ٨٣٣ م، فنُقِلَ إلى طَرَسُوس ودُفِنَ بها. ولطَرَسُوس بابٌ يقال له "بابُ بَذَنْدُون" عنده في وَسَط السُّور قَبْرُ أمير المؤمنين المأمُون. (ياقوت الحموي: معجم البلدان ١: ٣٦١ - ٣٦٢).
(٣) قارن مع البيروني: الآثار الباقية ٢٠٥ - =