ورَغْمَ إشارَة النَّدِيمَ في صَدْرِ كِتَابِه إِلى أَنَّه "فَهْرِسْتُ كُتُبِ جَمِيعِ الأُمم من العَرَبِ والعَجَمِ المَوْجُودِ منها بلُغَةِ العَرَب وقَلَمِها في أَصْنَافِ العُلُوم وأَخْبَارِ مُصَنِّفيها وطَبَقَاتِ مُؤَلِّفيها وأَنْسَابِهم وتأريخ مواليدهم ومَبْلَغ أَعْمَارِهِم وأَوْقَاتِ وَفَاتِهم وأمَاكِن بُلْدَانِهم ومَنَاقِبهم ومَثَالِبهم، منذ ابْتِدَاءِ كُلِّ عِلْمٍ اخْتُرِع إلى عَصْرِنَا هذا، وهو سنة سَبْعٍ وسبعين وثلاث مائة للهجرة"، فإنَّه لا يمكننا أن نَعُدَّ "فهرست" محمَّد بن إِسْحَاق النديم حَصْرًا لجميع الإنتاج الفكري الذي أنْتَجَه العَرَب والمسلمون في القُرُون الأربعة الأولى للإسلام، تأليفا ونَقلا وتَرْجَمَةً، فقد غَابَ عنه منها الكثيرُ الذي نَعْرِفُهُ الآن ووَصَلَ إلينا، كما أنه لم يُغَطِّ كُلَّ العَالم الإسلامي حيث لم يذكر أيّ شيءٍ عن ما أَنْتِجَ في مصر وشَمَالِ أفريقيا والأندلس، ورَكَّزَ جُهْدَه على ما أُنْتِجَ في مَرْكَز الخلافة الإسلامية في هذا الوَقْت، العِرَاق وعاصمته بَغْدَاد. كما أنَّ عَدَدًا كبيرًا من المصنفين الذين أتى على ذِكْرِهِم لم يَسْتَوْعِب جَمِيعَ كُتُبِهم ولم يدَّع ذلك، فقد فَاتَهُ ذِكْرُ الكَثِير من الكتب والكثير من المؤلّفين الذين عاشوا في الحقبة التي سَجَّلَهَا في كتابه.
ومع ذلك فلا يمكننا اتِّهامُ النَّدِيم بأنه لم يتعرف على ما أُنْتِجَ خَارِجَ العِرَاقِ، لأنَّ الإنتاج الفكري في هذا العَصْر كان مَحْصُورًا بالفِعْل في العِرَاق ومَشْرِق العالم الإسلامي حيث مَرْكَز الخلافة الإسلامية، وهو دَليلٌ على حَيَوِيَّة المراكز الجَاذِبَة التي تَرْعَى العُلُومَ والآدَابَ حَيْثُ "بَيْتُ الحِكْمَة" الذي أَسَّسَهُ هَارُونُ الرشيد في بغداد وازْدَهَرَ على الأخص في عَصْرِ المأمون، وحَيْثُ ازْدَهَرَت المدارس الفكرية واللُّغَوِيَّة والكَلامِيَّة المختلفة في البَصْرَة والكُوفَة وبَغْدَاد حتى المَوْصِل شَمَالًا، ونَبَغَ العُلَمَاءُ والأَدَبَاءُ والمتكلمون والفُقَهَاءُ الرُّوَّاد، وقامَ العِبَادِيُّون والسُّرْيَانُ بجُهْدِ رائع في حَرَكَة النَّقْل والتَّرْجَمَة من اللغات اليونانية والسريانية والبهلوية والهِنْدِيَّة إلى اللغة العربية. كما أنَّ مِصْرَ والمغرب والأندلس لم يَبْدَأ فيها الإنتاج العلمي الفِعْليّ إلا في القرنين الرابع والخامس