للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وصارت الخطبة بديار مصر للعاضد ومن بعده للملك العادل نور الدّين، وهو فى الظّاهر ملك الدّيار المصريّة وصلاح الدين لا يتصرّف إلا عن أمره كالنّائب فى الأمر عنه؛ ونور الدّين لا يفرده بكتاب، بل يكتب: الأمير الأسفهلار (١) صلاح الدّين وكافّة الأمراء بالدّيار المصريّة يفعلون كذا؛ ويجعل علامته على رأس الكتاب تعظيما لنفسه وترفّعا عن أن يكتب اسمه.

وعند ما بلغه وفاة أسد الدّين شقّ عليه استيلاء صلاح الدّين، وتتبّع أصحابه وأصحاب أسد الدّين، وأخذ إقطاع صلاح الدّين وإقطاع أسد الدّين، ومنع نوّابه من التصرّف فى حمص، وأبعد أهاليهم واستثقلهم وطردهم عنه. وكتب إلى الأمراء بمصر بمفارقته وتركه بمصر وحيدا ليوهن أمره. وشرع يذمّه ويذكره بالسّوء ويعنته فى الطّلب بحمل الأموال إليه، وصار كثيرا ما يقول: ملك ابن أيوب ويستعظم ذلك احتقارا له (٢).

وثقل ذلك على أهل الدّولة وحواشى الخليفة العاضد، فإنه أقطع أصحابه أجلّ البلاد وآواهم، وأبعد أهل مصر وأضعفهم، واستبدّ بجميع الأمور ومنع العاضد من التّصرّف؛ ففطن العاضد لما يريد من إزالة الدّولة. فثار الأستاذ مؤتمن الخلافة، وهو يومئذ من أكابر خدّام القصر، وبعث بمكاتبة إلى الفرنج يستنجد بهم على الغزّ، ويحثّهم على قصد البلاد ليخرج إليهم صلاح الدّين بعساكره فيثور عند ذلك بصعيد مصر وطوائف العسكر،


(١) اصطلاح عسكرى مركب من: أسفه بمعنى مقدم، وهى فارسية، وسلار بمعنى عسكر، وهى تركية، فمعناه مقدم العسكر. يقول القلقشندى: وهو زمام كل زمام، وإليه أمر الأجناد والتحدث فيهم، وفى خدمته تقف الحجاب على اختلاف طبقاتهم. صبح الأعشى: ٤٧٩:٣.
(٢) هذا هو موقف ابن الأثير من صلاح الدين. وينقل أبو شامة مثل هذا عن ابن أبى طى أيضا من كتابه: السيرة الصلاحية ويعلق عليه بقوله: «والذى أنكره نور الدين هو إفراط صلاح الدين فى تفرقة الأموال واستبداده بذلك من غير مشورته. هذا مع أن ابن أبى طى متهم فيما ينسبه إلى نور الدين مما لا يليق به، فإن نور الدين، ، كان قد أذل الشيعة بحلب وأبطل شعارهم، وقوى أهل السنة، وكان والد ابن أبى طى من رءوس الشيعة فنفاه من حلب، فهو لذلك كثير الحمل على نور الدين، فلا يقبل منه ما ينسبه إليه مما لا يليق به. والله أعلم». ثم يقول: «وقد وقفت على كتاب بخط نور الدين يشكر فيه صلاح الدين، وذلك ضد ما قاله ابن أبى طى»، ويسوق نص الكتاب وهو موجه إلى شرف الدين ابن أبى عصرون بتوليته قضاء مصر، وفى نهايته: «وقد كتبت هذا بخطى حتى لا يبقى على حجة. تصل أنت وولدك عندى حتى أسيركم (كذا) إلى مصر، والسّلام. بموافقة صاحبى واتفاق منه، صلاح الدين، وفقه الله، فأنا منه شاكر كثير كثير كثير، جزاه الله خيرا وأبقاه». كتاب الروضتين: ٤٤١:١ - ٤٤٣.