للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نور الدّين إلى مصر وينزعه منها. فلم يقبل منه نور الدّين وألحّ عليه وألزمه إلزاما لم يجد مندوحة عن مخالفته، وساعدته الأقدار بمرض العاضد المرض الّذى غلب على الظّنّ أنّه لا يعيش منه. فجمع صلاح الدّين أصحابه إليه واستشارهم فى ذلك، فاختلفوا، فمنهم من أشار بقطع خطبة العاضد، ومنهم لم يشر بها.

وكان قد دخل إلى مصر رجل عجمىّ يعرف بالأمير العالم، يزعم أنّه عبّاسى فاطمىّ من أيّام الصّالح بن رزّيك، وما زال ينتقل فى قوالب الانتساب وأساليب الاكتساب. فلمّا رأى ما هم فيه من الإحجام وأنّ أحدا لا يتجاسر ويخطب للمستضيء قال: أنا أبتدئ الخطبة له. فصعد يوم الجمعة المنبر بالجامع العتيق وخطب للمستضيء قبل الخطيب، فلم ينكر أحد عليه ولا تحرّك له. فتيقّن حينئذ صلاح الدّين ذهاب قوّة القوم من وال يغريهم.

فتقدّم إلى جميع الخطباء بأن يخطبوا فى الجمعة الآتية للمستضيء، وكتب بذلك إلى سائر أعمال مصر. فكان الذى ابتدأ بالخطبة للمستضيء فى الجامع العتيق بمصر أبو عبد الله محمّد ابن الحسن بن الحسين بن أبى المضاء الدمشقى (١). وكان قدم به أبوه إلى مصر فنشأ بها وقرأ الأدب، ورحل إلى دمشق وبغداد وتفقّه، وعاد إلى مصر، واتّصل بخدمة السّلطان صلاح الدّين فولاّه الخطابة بمصر ثم بعثه رسولا إلى بغداد، فمات بدمشق. وولى الخطابة بعده الشيخ أبو إسحاق العراقى.

فكتم أهل العاضد ذلك عنه لشدّة ما به من المرض. وكان ذلك من أعجب ما يؤرّخ، فإنّ الخطبة بديار مصر أوّل ما خطب بها للمعزّ لدين الله، أول خلائف الفاطميّين بمصر،


(١) تقدم فى آخر أنباء سنة ست وستين أن الذى قام بالخطبة فى الجامع العتيق - بعد أن أحجم الخطباء عن ذلك - رجل من أهل المغرب يسمى اليسع بن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع، الغافقى الأندلسى. ويذكر النويرى أن صلاح الدين أحضر الفقيه اليسع بن يحيى بن اليسع وعرفه برغبة نور الدين، فصعد اليسع المنبر قبل صعود الخطيب ودعا للمستضيء بنور الله فلم ينكر عليه أحد. ويذكر أبو المحاسن أن الروايات اختلفت فيمن أقدم على هذه الخطبة العباسية فقيل إنه رجل من الأعاجم يسمى الأمير العالم. وقيل رجل من أهل بعلبك يسمى محمد بن المحسن بن أبى المضاء البعلبكى، وقيل إنه كان شريفا عجميا ورد من العراق أيام الصالح طلائع بن رزيك. قارن نهاية الأرب: ٢٨؛ النجوم الزاهرة: ٣٥٥:٥٠ - ٣٥٦.