للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفى ذى القعدة مات الأمير السعيد محمود بن ظفر، والى قوص. وركب المأمون إلى الجامع الأزهر، فلمّا كان وقت صلاة الصبح تقدم قاضى القضاة ثقة الملك أبو الفتح مسلم بن على الرّاسعينى وصلّى؛ فلمّا قرأ الفاتحة لحقه زمع (١) شديد وارتعد، فلحن فى الفاتحة؛ وقرأ: «وَالشَّمْسِ وَ ضُحاها»،﴾ فلمّا قال: «ناقَةَ اللهِ وَ سُقْياها» أرتج عليه، فردّ المؤتمن حيدرة، أخو المأمون، عليه، فاشتدّ زمعه، فكرّر عليه الرّدّ، فلم يهتد وقال:

«وسقناها» بالنون: فقرأ المأمون بقيّة السّورة وسجد النّاس. وقام فى الرّكعة الثانية وقد دهش فلم يفتح عليه بشئ؛ فقرأ المأمون الفاتحة «و ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ»،﴾ وقنت وهو معه يلقّنه. فلمّا انقضت الصّلاة اشتدّ غضب المأمون وأمر متولّى الباب بأن يختم المقرءون.

وتخيل المقام وخرج من الجامع، فوكل بالقاضى من يمضى به إلى داره ويأمره بالمقام بها من غير تصرّف حتى يحفظ القرآن؛ وقرّر له راتبا فيما بعد؛ ولزم داره.

وأنفذ للوقت إلى القاضى أبى الحجّاج يوسف بن أيّوب المغربى، من قضاة الغربية، فأحضره وخلع عليه فى القصر بذلة مذهبة، وسلّم به على الخليفة، وسلّم إليه السّجلّ فى لفافة مذهبة بنيابته فى الحكم العزيز والخطابة والصّلاة وديوان الأحباس (٢) ودور الضّرب بسائر أعمال المملكة؛ ونعت فيه بالقاضى جلال الملك تاج الأحكام؛ فقبّله ووضعه على رأسه. وتلى على منابر القاهرة ومصر.

وكان يحضر فى يومى الاثنين والخميس إلى مجلس المظالم بين يدى المأمون، ويستعرض القصص ويناقش فيها، ويباحث مباحثة الفقهاء العلماء، فزاد المأمون فى إكرامه، وردّ إليه وكالة الخليفة؛ وكتبت له الوكالة، وشرّف بالخلع.

وتولّى قوص الأمير مؤيّد الملك وخلع عليه؛ وأمر أن يبنى بقوص دار ضرب، وجهّز معه مهندسين وضرّابين وسكك العين والورق، وعشرين ألف دينار وعشرين ألف درهم


(١) الزمع شبه الرعدة تأخذ الإنسان، والدهش، والخوف، وفعله كفرح. القاموس المحيط.
(٢) ديوان الأحباس المقصود به ديوان الأوقاف وكان لا يخدم فيه إلا أعيان كتاب المسلمين من الشهود المعدلين، وفيه عدة مديرين وكاتبان معينان لنظم الاستيمارات، ويسجل فى استيماره كل ما فى الرقاع والرواتب، وما يجبى له من جهات كل من الوجهين القبلى والبحرى. والشهود المعدلون طبقة من طبقات أصحاب الوظائف الدينية تسند إليها مهمات محددة مثل وكالة بيت المال والحسبة وحضور مجلس الحكم (القضاء)، ولا يعدل أحد للشهادة إلا بأمر الخليفة. صبح الأعشى: ٤٨٢:٣ - ٤٨٣، ٤٩٠.