للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فى خلوة، فاستوحش من غيبته، فأعلمه أنه لم يكن به وجع ولكنّه كره ما جرى فى حقّ السّلف، فإن أمر السّلطان فقطع ذلك حضرت وإلا كان فى الأرض سعة وفى الملوك كثرة. فعجب الصّالح من ذلك. وقال: سألتك بالله ما تعتقد فى أبى بكر وعمر؟ فقال: أعتقد أنّه لولاهما لم يكن سبق للإسلام حرمة ولا علا له راية، وما من مسلم إلا ومحبّتهما واجبة عليه. ثم قرأ: «ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه» (١) فضحك الصالح، وكان هذا من رياضته، فإنّه مخالف لمذهبه مخالفة لا يحتملها مثله إلاّ أنّه كان مرتاضا حصيفا قد لقى الفقهاء وسمع كلامهم.

وبعث يوما إلى عمارة ثلاثة أكياس من مال ورقعة بخطّه فيها هذه الأبيات يدعوه فيها إلى مذهبه (٢):

قل للفقيه عمارة: يا خير من … أضحى يؤلّف خطبة وكتابا

اسمع (٣) نصيحة من دعاك إلى الهدى … قل حطّة (٤)، وادخل إلينا البابا

تلق الأئمّة شافعين، ولا تجد … إلاّ لدينا سنّة وكتابا

وعلىّ أن يعلو محلّك فى الورى … وإذا شفعت إلىّ كنت مجابا

وتعجّل الآلاف، وهى ثلاثة … صلة، وحقّك لا تعدّ ثوابا

فأجابه عمارة ٥:

حاشاك من هذا الخطاب خطابا … يا خير أملاك الزّمان نصابا

لكن إذا ما أفسدت علماؤكم … معمور معتقدى وصار خرابا

ودعوتم فكرى إلى أقوالكم … من بعد ذاك، أطاعكم وأجابا


(١) سورة البقرة: آية: ١٣٠.
(٢) النكت العصرية: ٤٥.
(٣) فى النكت: اقبل.
(٤) يشير بذلك إلى ما ورد فى سورة البقرة: آية: ٥٨، من قول الله جل وعز لقوم موسى: «وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين». فهو يقول لعمارة و «قل حطة» يغفر لك. يقول صاحب مختار الصحاح: وقوله تعالى «وقولوا حطة» أى حط عنا أوزارنا، وقيل هى كلمة وواحدها بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطت أوزارهم.
العصرية: ٦٣ - النكت العصرية: نفس المصدر: ٤٥ - ٤٦.