للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إلى الموت فأخرجه نور الدّين كرها ليحقّ قول الله سبحانه إذ يقول: «وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ» (١). فإنّ نور الدّين أحبّ مسير صلاح الدّين إلى مصر فكان مسيره إليها لخروج الملك عن أولاده، وكره صلاح الدّين مسيره إلى مصر فكان فى مسيره إليها تملّكه إيّاها وغيرها من الأقاليم (٢).

وسار شيركوه من دمشق فى ثانى عشر ربيع الأوّل وتقدّم الفقيه عيسى الهكارى إلى العاضد سرّا وخفية من شاور ليحلّفه على أشياء.

وأمّا مرى فإنّه كثرت أمراء الفرنج عنده لقصد سبى بلبيس، فغزاها برجاله، وأمر بإخراج الأسرى من أهل بلبيس إلى ظاهر البلد؛ وركب وقد اعتقل رمحه (٣) وحمل على الأسرى حتى فرقهم فرقتين، فجعل لنفسه الفرقة التى وقعت عن يمينه، وأنعم بالفرقة اليسرى على أهل عسكره؛ وقال لمن صار إليه من الأسرى: قد أطلقتكم شكرا لله على ما أولانى من فتح مصر فإنى ملكتها بلا شكّ وما زال واقفا حتى عدّى أكثرهم النيل إلى جهة منية حمل (٤)، وأخذ عسكره أسراهم فاقتسموهم، فبقوا فى أيدى الفرنج بعد ذلك نحو الأربعين سنة وهلك كثير منهم هنالك، وأفلت بعضهم.

وكان شمس الخلافة قد صار إلى مرى قبل أخذه مدينة بلبيس بإجابته إلى القطيعة التى طلبها، فعاقه عنده حتى أخذ بلبيس، كما تقدّم ذكره ثم أذن له فى الانصراف إلى القاهرة، واعتذر بأنّه بلغه عن (قيس) (٥) بن طىّ أشياء أمضّته حتى فعل ما فعل،


(١) سورة البقرة: آية: ٢١٦.
(٢) إشارة إلى تطورات الأحداث بعد ذلك من وفاة شيركوه بعد شهرين من توليه وزارة العاضد الفاطمى ليخلفه بعد ذلك صلاح الدين، ابن أخيه، الذى استقرت أحواله بإسقاط الفاطميين ثم باستيلائه على الشام بعد وفاة نور الدين محمود؛ فكان استقرار ملك صلاح الدين نذيرا بتدهور سلطان أسرة زنكى. ويروى أبو شامة أن شيركوه قال ليوسف بن أخيه فى هذه المناسبة: تجهز يا يوسف؛ فأحس صلاح الدين كأنما ضربوا قلبه بسكين، وقال لعمه: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية من المشاق ما لا أنساه أبدا … فلما أمره نور الدين بالتحرك وجهزه قال صلاح الدين: فسرت وكأنما أساق إلى الموت. كتاب الروضتين: ٣٩٤:١.
(٣) اعتقل رمحه جعله بين ساقيه وركابه. القاموس المحيط.
(٤) بفتح الحاء والميم: قرية تابعة لمركز بلبيس بمحافظة الشرقية على مسافة نحو ربع ساعة غربى خط السكة الحديدية الموصلة إلى بلبيس، وتبعد عن بلبيس غربا بنحو ساعة، وفى جنوب منية ربيعة. الخطط التوفيقية: ٦٢:١٦.
(٥) ما بين القوسين للتوضيح استعانة بما سبق.