للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال عياض: اعلم (أكرمك الله) أَنَّ لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين:

أحدهما: في توهين أصله.

والثاني: على تقدير تسليمه.

أما المأخذ الأَوَّلُ: فيكفيك أنَّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولاَ رَوَاهُ ثقة بسند مُتَّصِلٍ سليم وإنما أولع به وبمثله المُفَسِّرُون والمؤرِّخُونَ المُولَعُونَ بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي أبو بكر ابن العلاء المالكيُّ (رحمه الله تعالى) حيث يقول: لقد بُلِيَ الناسُ ببعض أهل الأهواء والتفسير، ثم قال عياض: قال أبو بكر البَزَّارُ: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلّم بإسناد مُتَّصل يجوزُ ذكرُه وإنَّما يُعْرَفُ عن الكلبيِّ. قال عياض: والكلبيُّ مِمَّنْ لا تجوز الرواية عنه ولا ذِكْرُهُ لقوَّةِ ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البَزَّارُ، وقد أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلّم ونزاهته عن مثل هذا، انتهى، ونحو هذا لابن عطية «١» قال: وهذا الحديث الذي فيه: هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يُدْخِلْهُ البخاريُّ ولا مسلم، ولا ذكره- في علمي- مُصَنِّفٌ مشهور بل يقتضي مذهبُ أهل الحديث أَنَّ الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره.


- في مقدمة كتابه «لسان الميزان» .
٢- الاحتجاج بالمرسل إنما هو في الفرعيات التي يكفي فيها الظن، أما الاحتجاج به على إثبات شيء يصادم العقيدة وينافي دليل العصمة فغير مسلم، وقد قال علماء التوحيد: إن خبر الواحد لو كان صحيحا لا يؤخذ به في العقائد لأنه لا يكتفي فيها إلا باليقين، فما بالك بالضعيف؟!! ٣- هذا التأويل الذي ارتضاه ما أضعفه عند النظر والتأمل، فهو يوقع متأوله فيما فر منه، وهو تسلط الشيطان على النبي، فالتسلط عليه بالمحاكاة، كالتسلط عليه بالإجراء على لسانه، كلاهما لا يجوز، وفتح هذا الباب خطر على الرسالات، وإذا سلمنا أن الشيطان هو الذي نطق في أثناء سكوت الرسول، فكيف لا يسمع ما حكاه الشيطان؟ وإذا سمعنا، فكيف لا يبادر إلى إنكارها؟ والبيان في مثل هذا وجب على الفور، وإذا لم يسمع النبي، ألم يسمع أصحابه؟ وإذا سمعوا، فكيف يسكتون؟ وإذا لم يسمعوا فهل بلغ من تسلط الشيطان أن يحول بينهم وبين السماع؟
ومثل هذا: ما ذكره موسى بن عقبة في «مغازيه» : من أن المسلمين ما سمعوها، وإنما ألقى الشيطانُ ذلك في أسماع المشركين، فهل كان الشيطان يسر في آذان المشركين دون المؤمنين؟ ثم كيف يتفق هذا وما روي: من أن النبي حزن حزنا شديدا، وأن جبريل قال له: ما جئتك بهذا الحق!! الحق: أن نسج القصة مهما تأوّل فيه المتأولون فهو مهلهل متداع لا يثبت أمام البحث.
ينظر: «الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير» ص ٢٤٥ وما بعدها بتصرف.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٢٩) .

<<  <  ج: ص:  >  >>