للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>


- إيحاء الشياطين إلى أوليائه من الزنادقة، حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين، ليرتابوا في صحة الدين، والرسالة بريئة من مثل هذه الرواية.
فها نحن نرى: أن من أنكرها وقضى بوضعها أكثر ممن صححها اعتمادا على روايات مرسلة.
ومما يقلل الثقة بالحديث: اضطراب الروايات اضطرابا فاحشا.
فقائل يقول: إنه كان في الصلاة، وقائل يقول: قالها في نادي قومه، وثالث يقول: قالها وقد أصابته سنة. ورابع يقول: بل حدّث نفسه فيها. ومن قائل: إن الشيطان قالها على لسانه، وإن النبي لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؟ وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان: أن النبي قرأها كما رويت: تلك الغرانيق العلى على أنحاء مختلفة، وكل هذا الاضطراب ممّا يوهن الرواية، ويقلل الثقة بها. والحق أبلج والباطل لجلج.
وقد حكمت الصنعة والقواعد الاصطلاحية على الحافظ ابن حجر، فصحح القصة، وجعل لها أصلا، قال في «الفتح» ، في تفسير سورة الحج، بعد ما ساق الطرق الكثيرة: وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف، وإما منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أن لها أصلا، مع أن لها طريقين مرسلين آخرين، رجالهما على شرط الصحيح: أحدهما: ما أخرجه الطبريّ من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فذكر نحوه. والثاني: ما أخرجه أيضا من طريق المعتمد بن سليمان، وحماد بن سلمة، فرقهما عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، وبعد أن ذكر كلام القاضي أبي بكر بن العربي، وعياض قال: وجميع ذلك لا يتمشى مع القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتبينت مخارجها، دل ذلك على أن لها أصلا، وقد ذكرت أن ثلاثة أساتيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل، يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج، لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك: تعين تأويل ما فيها مما يستنكر، وهو قوله: «ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا» ، فإنه لا يجوز حمله على ظاهره، لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلّم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس منه، وكذا سهوا إن كان مغايرا لما جاء به من التوحيد، لمكان عصمته، وقد سلك العلماء في ذلك مسالك ... ، وبعد أن ذكر الكثير منها، ولم يرتضه، ارتضى لتصحيح القصة هذا التأويل: وهو أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يرتل القرآن ترتيلا، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمة محاكيا نغمته، بحيث سمعها من دنا، فظنه من قوله، وأشاعها بين الناس، قال: وهو الذي ارتضاه عياض وأبو بكر بن العربي ا. هـ، والقاضيان: عياض وأبو بكر رأيهما البطلان نقلا وعقلا، ولكنهما ارتضيا ذلك تنزلا على تسليم الصحة.
والذي أجيب به على ما ذكره الحافظ:
١- أن جمهور المحدثين لم يحتجوا بالمرسل، وجعلوه من قسم الضعيف لاحتمال أن يكون المحذوف غير صحابي، وحينئذ: يحتمل أن يكون ثقة أو غير ثقة. وعلى الثاني: فلا يؤمن أن يكون كذابا، والإمام مسلم قال في مقدمة كتابه: والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالإخبار: ليس بحجة. وقال ابن الصلاح في مقدمته: «وذكرنا من سقوط الاحتجاج بالمرسل، والحكم بضعفه: هو الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث، وتداولوه في تصانيفهم» ، والاحتجاج به مذهب مالك، وأبي حنيفة والشافعي، بشروط ذكرها في رسالته، ونقلها العراقي في شرح ألفيته، وقد قالوا في مراسيل أبي العالية: إنها كالريح، كما في: «التدريب» وإني لأذكر الحافظ بما ذكره من البلاء في الاحتجاج بالمراسيل-

<<  <  ج: ص:  >  >>