للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الآيَاتُ وَالْفَضْلُ وَاللَّهِ في أَبِيكُمْ، والسَّعْيُ في هذه الآيةِ: العَمَلُ والعبادةُ والمَعُونَةُ، قاله ابن عَبَّاسٍ «١» وغيرُهُ، وقال قتادةُ: السَعْيُ على القَدَمِ يريدُ سَعْيَاً مُتَمَكِّنِاً «٢» ، وهذا في المعنى نَحْوُ الأوَّلِ.

وقوله: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ ... الآية، يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ رأى ذلِكَ بِعَيْنِهِ ورُؤيا الأنبياءِ وَحْيٌ، وعُيِّنَ لَهُ وقتُ الامْتِثَالِ، ويُحْتَمَلُ أنَّه أُمِرَ في نومِه بِذَبْحِهِ، فَعبَّر عَنْ ذلكَ بقوله: إِنِّي أَرى أي: أرى ما يوجبُ أنْ أذْبَحَكَ، قال ابن العَرَبِيِّ في «أحكامه» «٣» :

واعلم أن رُؤيا الأنبياءِ وَحْيٌ فَمَا أُلْقِيَ إليهم، ونَفَثَ بهِ المَلَكُ في رُوعِهِمْ، وضَرَبَ المثَلَ لَه عَلَيْهِم- فَهُو حَقٌّ ولذلكَ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أنَّهُ يُنْزلُ فِيَّ قُرْآنٌ يتلى، ولكني رَجَوْتُ أنْ يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا حقيقةَ الرُّؤيا، وأن البَارِيَ- تعالى- يَضْرِبُهَا مثَلاً للناسِ، فمنها أسماءٌ وكُنًى، ومنها رُؤْيَا تَخْرُج بِصِفَتِهَا، ومنها رُؤيا تَخْرُجُ بتأويلٍ، وهُوَ كُنْيَتُهَا. ولما اسْتَسْلَمَ إبراهيمُ وولدُه إسماعيلُ- عليهما السلام- لقضاءِ اللَّهِ، أُعْطِيَ إبراهيمُ ذَبِيحاً فِدَاءً، وقيل له: هذا فداءُ وَلَدِكَ، فامْتَثِلْ فِيه مَا رَأَيْتَ فإنَّه حقيقةُ مَا خاطبناك/ فيه، وهُو كِنَايَةٌ لاَ اسم، وجَعَلَهُ مُصَدِّقاً للرؤيا بمبادَرةِ الامْتِثَال، انتهى.


- لها، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟!! بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتا هذه وابنها منهم، وليري عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد- آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطىء أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبدا لهم إلى يوم القيامة بذلة وانكسار.
ثم أيهما أشد وقعا على النفس وأعظم بلاء: أن يؤمر إبراهيم بذبح إسحاق وله ولد آخر يجد فيه إبراهيم بعض المعوض عن الابن المذبوح؟ أم يؤمر بذبح ولده ووحيده وبكره الذي رزقه على كبر، وأتى بعد طول انتظار وشدة اشتياق ولم يكن هناك بارقة أمل في أن يرزق إبراهيم بولد بعده؟.
إن الله تعالى قد وصف واقعة الذبح هذه بأنها البلاء المبين أي: الابتلاء والاختبار المبين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، ولا ينطبق هذا الوصف ولا يتحقق هذا البلاء إلا إذا كان الذبيح هو إسماعيل الابن الوحيد البكر.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٠٦) برقم: (٢٩٤٦٩) بلفظ: العمل، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨١) عن ابن عبّاس، ومجاهد، وابن زيد، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٢٧) ، بلفظ:
العمل، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨١) .
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٤/ ١٦١٧) .

<<  <  ج: ص:  >  >>