للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واصْطَفى هنا: معناه: تخيَّر صفوةَ الأديان.

وقوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: إِيجاز بليغ، وذلك أنَّ المقصود من أمرهم بالإِسلام الدوامُ علَيْه، فأتى بلفظ موجَزٍ يقتضي المقصودَ، ويتضمَّن وعظاً وتذكيراً بالموت، وذلك أن المرء يتحقَّق أنه يموت، ولا يدري متى، فإِذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إِلاَّ وهو عليه، فقد توجَّه من وقت الأمر دائباً لازماً.

وقوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ هذا الخطابُ لليهودِ والنصارَى الذين انتحلوا الأنبياءَ- صلوات اللَّه عليهم- ونَسَبوهم إِلَى اليهوديَّة والنصرانية، فردَّ اللَّه عليهم وكذَّبهم، وأعلمهم أنهم كانُوا على الحنيفيَّة الإِسلامِ، وقال لهم على جهة التقريرِ والتوبيخ: أَشهدتُّمْ يعقوبَ بما أوصى، فتدَّعُونَ عنْ علْمٍ أَم لم تشهدوا، بل أنتم تفترُونَ، «وأم» «١» : للاستفهامِ في صدرِ الكلامِ، لغةٌ يمانيَةٌ، وحكى الطبريُّ أنَّ «أَمْ» يستفهم


(١) في «أم» هذه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو المشهور أنها منقطعة، والمنقطعة تقدر ب «بل» وهمزة الاستفهام، وبعضهم يقدرها ببل وحدها، ومعنى الإضراب انتقال من شيء إلى شيء لا إبطال له، ومعنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ، فيؤول معناه إلى النفي أي: بل أكنتم شهداء يعني لم تكونوا.
الثاني: أنها بمعنى همزة الاستفهام وهو قول ابن عطية والطبري، لا أنهما اختلفا في محلها: فإن ابن عطية قال: وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية، وقال الطبري: إن أم يستفهم بها وسط كلام قد تقدم صدره/.
قال أبو حيان في قول ابن عطية: ولم أقف لأحد من النحويين على ما قال، وقال في قول الطبري: وهذا أيضا قول غريب.
الثالث: أنها متصلة وهو قول الزمخشري، قال الزمخشري بعد أن جعلها منقطعة وجعل الخطاب للمؤمنين قال بعد ذلك: وقيل الخطاب لليهود، لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام، ولما ادعوا عليه اليهودية، فالآية منافية لقولهم فكيف يقال لهم: أم كنتم شهداء؟ ولكن الوجه أن تكون «أم» متصلة على أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء، يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه براء؟
قال أبو حيان: ولا أعلم أحدا أجاز حذف هذه الجملة، ولا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره لو قلت: «أم زيد» تريد: «أقام عمرو أم زيد» لم يجز، وإنما يجوز حذف المعطوف عليه مع الواو والفاء إذا دل عليه دليل كقولك: «بلى وعمرا» لمن قال: لم يضرب زيدا، وقوله- تعالى-: فَانْفَجَرَتْ [البقرة: ٦٠] أي فضرب فانفجرت وندر حذفه مع أو كقوله: [الطويل]
فهل لك أو من والد لك قبلنا ... ............... ...........
أي: من أخ أو والد، ومع حتى كقوله: [الطويل] .

<<  <  ج: ص:  >  >>