للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقيل: نعمةُ الدنيا، ونعمةُ الآخرةِ، وقيل: النعمة الظاهرة، والنعمة الباطنةُ، والظاهر أن قوله سبحانه: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارةٌ عن إنعامه على الجملة، وعبَّر عنها باليدَيْن جرياً على طريقة العرب في قولهم: فُلاَنٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ ومنه قول الأعشى: [الطويل]

يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَة ... وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالمَالِ تُنْفِقُ «١»

ويؤيِّد أن اليدَيْن هنا بمعنى الإنعامِ- قرينةُ الإنفاق، ثم قال تعالى لنبيِّه- عليه السلام-: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ، يعني: اليهودَ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً، ثم قال سبحانه: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، العداوة: أخصُّ من البغضاء لأن كلَّ عدوٍّ، فهو يُبْغضُ، وقد يُبْغضُ مَنْ ليس بعدُوٍّ، والبغضاء: قد لا تتجاوَزُ النفوسَ، وقد ألقى اللَّه سبحانه الأمرَيْن على بني إسرائيل.

قال الفَخْر «٢» : وقد أوقع اللَّه بَيْنَ فِرَقِهِمْ الخصومةَ الشَّديدة، وانتهى أمرهم إلى أنْ يُكَفِّرَ بعضهم بعضاً، وفي قوله: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ ... الآية: قولان:

أحدهما: أن المراد ما بَيْن اليهودِ والنصارى من العداوةِ لأنه جرى ذكْرُهُمْ في قوله:

لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: ٥١] ، وهذا/ قول الحسنِ ومُجَاهد «٣» .

والثاني: ما وقع من العداوة بين فِرَقِ اليهود، فإنَّ بعضهم جبريَّةٌ وبعضهم قَدَرية، وبعضهم مُوَحِّدة، وبعضهم مُشَبِّهة، وكذلك بَيْن فرقِ النصارى كالمَلْكَانِيَّة، والنُّسْطُورِيَّة، واليَعْقُوبيَّة «٤» . انتهى.


(١) البيت في ديوانه (٢٢٥) ، و «الدر المصون» (٢/ ٥٦٦) ، و «البحر المحيط» (٣/ ٥٣٥) .
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (١٢/ ٣٨) .
(٣) أخرجه الطبري (٤/ ٦٤٢) برقم (١٢٢٥٤) عن مجاهد.
(٤) ونقل عن طوائف النصارى القول بالاتحاد، وعن بعضهم القول بالحلول، وعن بعضهم القول بأن عيسى ابن الله، وعن بعض طوائف اليهود القول بأن عزيرا ابن الله. واختلف النقل عن النصارى في معنى الاتحاد. فقيل: معناه أن الكلمة وهي صفة العلم ظهرت في عيسى وصارت معه هيكلا. وقيل: معناه المخارجة بمعنى أن تكون من الكلمة وعيسى شيء ثالث- وأما القول بالحلول فمعناه على رأي بعض فرقهم: أن الكلمة وهي صفة العلم حلت في المسيح، وعلى رأي البعض الآخر: أن ذات الله حلت في المسيح. ولما كان كلامهم في الحلول والاتحاد مضطربا وغير منضبط على وجه صحيح، فنذكر الصور العقلية التي تتأتى في الاتحاد والحلول فنقول: إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح، أو حلول ذاته فيه، أو حلول صفته فيه، وكل ذلك إما ببدن عيسى أو بنفسه وإما ألّا يقولوا بشيء من ذلك. وحينئذ فإما أن يقولوا: أعطاه الله قدرة على الخلق والإيجاد أولا. ولكن خصه الله بالمميزات، وسماه ابنا تشريفا كما سمى إبراهيم خليلا، فهذه ثمانية احتمالات كلها باطلة للأدلة التي أحالت حلول الله واتحاده، والسابع-

<<  <  ج: ص:  >  >>