للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله سبحانه: كُلَّما أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ: استعارة بليغة، قال


- باطل لما ثبت أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله، وبقي احتمال اتحاد الكلمة بذات المسيح، وهو باطل أيضا لأن الكلمة المراد منها عندهم صفة العلم والاتحاد بجميع معانيه وأفراده مستحيل على الله بالأدلة السابقة والشبهة التي أوقعت النصارى في هذه الكلمات هي ما جاء في الإنجيل في عدة مواضع من ذكر الله بلفظ الأب، وذكر عيسى بلفظ الابن، وذكر الاتحاد والحلول تصريحا أو تلويحا، فمن ذلك ما جاء في إنجيل (يوحنا) في الصحاح الرابع عشر (يا فيلسوف من يراني ويعاينني، فقد رأى الأب، فكيف بقول: أنت أرنا الأب، ولا تؤمن أني بأبي وأبي بي واقع واقع، وأن الكلام الذي أتكلم به ليس من قبل نفسي، بل من قبل أبي الحال في، وهو الذي يعمل هذه الأعمال التي أعمل آمن وصدق أني بأبي وأبي بي) هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربية المتداول عندهم، فأخذ بعضهم الاتحاد من قوله: (من يراني ويعاينني فقد رأى الأب) وأخذ بعضهم الحلول من قوله: (أبي الحال في) ، وأخذ النبوة من التصريح بلفظ الأب مرة بعد أخرى، وهذا لا يصلح دليلا لوجهين:
الوجه الأول: توافرت الأدلة على حصول التغيير والتبديل في الإنجيل، فاحتمل أن يكون ذلك المذكور في إنجيل يوحنا مما حصل فيه التغيير والتبديل، فلا يصلح حينئذ أن يكون دليلا، فلا يصح به الاستدلال.
الثاني: أن نتنزل ونقول: لا تغيير ولا تبديل في ذلك المنقول، لكن دلالته على مدعاهم ليست يقينية لجواز أن يكون المراد من الاتحاد الذي فهمه بعضهم من الجملة الأولى الاتحاد في بيان طريق الحق، وإظهار كلمة الصدق كما يقال: أنا وفلان واحد في هذا القول، ولجواز أن يكون المراد من الحلول المصرح به في بعض الجمل حلول آثار صنع الله من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ولجواز أن يكون المراد من الأب المبدئ، فإن القدماء كانوا يطلقون الأب على المبدئ فمضى قوله: أبي مبدئي وموجدي وسمى عيسى ابنا تشريفا له كما سمى إبراهيم خليلا.
وأيضا فمن كان متوجها لشيء ومقيما عليه يقال له: ابنه كما يقال: أبناء الدنيا، وأبناء السبيل، فجاز أن يكون تسمية عيسى بالابن لتوجهه، في أكثر الأحوال إلى الحق، واستغراقه أغلب الأوقات في جناب القدس، ومما يؤكد ذلك أنه جاء في الصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا حيث دعا عيسى للحواريين ما لفظه: «وكما أنت يا أبي بي وأنا بك، فليكونوا هم أيضا نفسا واحدا يؤمن أهل العلم، بأنك أنت أرسلتني، وأنا قد استودعتهم بالمجد الذي مجدتني به، ودفعته إليهم ليكونوا على الإيمان، كما أنا وأنت أيضا واحد، وكما أنت حال فيّ كذلك أنا فيهم ليكون كمالهم واحدا» هذا لفظ الإنجيل، وقد تبين منه معنى الاتحاد والحلول على وجه مغاير لما فهموه، وجاء في الصحاح التاسع عشر ما لفظه: «إني صاعد إلى أبيكم وإلهي وإلهكم» وهذا يدل بواسطة العطف على أن المراد من الأب الإله، وعلى أنه مساو لهم في معنى النبوة والعبودية، فهذه النصوص تدحض حجتهم، وتلزمهم إذا أرادوا الحق بالرجوع إلى ما قضت به الأدلة العقلية المتقدمة من استحالة الاتحاد والحلول والنبوة.
أما بعض اليهود الذين قالوا: أن عذيرا ابن الله، فقد أشار الله- تعالى- إليه بقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: ٣٠] نسب الله ذلك القول إلى اليهود، مع أنه قول لطائفة منهم، جريا على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد والسبب الذي دعا هذه الطائفة إلى القول بأن عزيرا ابن الله أن اليهود تركوا العمل بما في التوراة، وعملوا بغير الحق فعاقبهم الله تعالى بأن أنساهم التوراة، ونسخها من صدورهم، فتضرع عزير إلى الله، وابتهل إليه، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه به، فلما جربوه-

<<  <  ج: ص:  >  >>