وإن كان ظاهرُهُ حقًّا، كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}، فهذه الآية ظاهرها ومعناها مفهوم، ليست ممَّا لا يُفْهَمُ المراد به؛ بل نفس ما دلتْ عليه لا يكفي وحده في العمل، فإنَّ المأمورَ به صَدَقة تكون مطهِّرة مزكيّة لهم، وهذا إنما يُعْرَفُ ببيان الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ولهذا قال أحمد: يحذرُ المتكلِّمُ في الفقه هذين الأصلين: المُجمل، والقياس.
يريد بذلك: أن لا يحكم بما يدلُّ عليه العام والمُطلق قبل النظر فيما يخصّه ويقيده، ولا يعمل بالقياس قبل النظر في دلالة النصوص؛ هل تدفعه؟
فإنَّ أكثرَ خطإ الناس: تمسكُهم بما يظنونه من دلالة اللفظ والقياس، فالأمور الظنيّة لا يعمَلُ بها حتى يبحثَ عن المُعَارض بحثًا يطمئن القلب إليه، وإلا أخطأ من لم يفعل ذلك.
وهذا هو الواقع في المتمسكين بالظواهر والأقيسة، ولهذا جعل الإحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ طريق أهل البدع، وله في ذلك مُصَنَّفٌ كبير.
وكذلك التمسُّك بالأقيسة مع الإعراض عن النصوص والآثار؛ طريق أهل البدع. ولهذا كان كل قول ابتدعه هؤلاء، قولاً فاسدًا، وإنما الصواب من أقوالهم ما وافقوا فيه السَّلَفَ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان" (١).
ثم إن ابنَ القيم -رَحِمَهُ اللهُ- بيَّن في "أعلام الموقّعين" أخطاء أهل الظاهر:
فقال: "فنفاة القياس لما سدُّوا على نفوسهم باب التمثيل، والتحليل، واعتبار
الحكم والمصالح -وهو الميزان والقسط الذي أنزله الله- احتاجوا إلى توسعة
الظاهر والإستصحاب، فحملوهما فوق الحاجة، ووسَّعوهما أكثر ممَّا يسعانه،
فحيث فهموا من النص حُكْمًا أثبتوه، ولم يبالوا بما وراءه، وحيث لم يفهموا منه؛ نفوه، وحملوا الإستصحاب، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها، والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عيها- من رأي، أو قياس، أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس، وتركهم له، وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه، ولكن أخطأوا من أربعة أوجه:
(١) "مجموع الفتاوى" (٧/ ٣٩١ - ٣٩٢).