أحدها: ردّ القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علّتِه التي يجري النصُّ عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ.
ولا يتوقف عاقل في أنَّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا لَعَنَ عبدَ اللهِ حمارًا على كثرة شربه للخمر:"لا تَلْعَنْهُ؛ فإنَّهُ يحبُّ اللهَ ورسولَه"، بمنزلة قوله: لا تلعنوا كل من يحبُّ اللهَ ورسولَه. وفي أنَّ قولَه:"إن اللهَ ورسولَه ينهيانكم عن لحوم الحمر؛ فإنها رِجْسٌ"، بمنزلة قوله: ينهيانكم عن كل رجس. وفي أنَّ قولَه تعالىَ:{إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}[الأنعام: ١٤٥] نهي عن كل رِجْسِ. وفي أنَّ قوله في الهِرِّ:"ليست بنجسٍ؛ إنها من الطوَّافين عليكم والطوافات"، بمنزلة قوله: كل ما هو من الطوَّافين عَليكم والطوَّافات؛ فإنَّه ليس بنجس. ولا يستريب أحدٌ في أنَّ من قال لغيره: لا تأكل من هذا الطعام، فإنه مسموم. نَهْيٌ له عن كل طعام كذلك. وإذا قال: لا تشرب هذا الشراب، فإنَّه مسكر. نهى له عن كل مسكر. ولا تتزوج هذه المرأة، فإنها فاجرة. ومثال ذلك.
الخطأ الثاني: تقصيرهم في فهم النصوص؛ فكم من حُكْم دلَّ عليه الخص، ولم يفهموا دلالته عليه.
وسبب هذا الخطأ: حصرُهم الدلالة في مجرَّد ظاهر اللفظ، دون إيمائه، وتنبيهه، وإشارته، وعُرْفِهِ عند المخاطبين؛ فلم يفهموا من قوله:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}[الإسراء: ٢٣] ضَرْبَا، ولا سَبًّا، ولا إهانة؛ غير لفظة (أُف)، فقصروا في فهم الكتاب، كما قصروا في اعتبار الميزان.
الخطأ الثالث: تحميل الإستصحاب فوق ما يستحقّه، وجزمهم بموجبه؛ لعدم علمهم بالناقل، وليس عدم العلم علمًا بالعدم" (١).
ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ-: "الخطأ الرابع لهم: اعتقادُهم أنَّ عقودَ المسلمين وشروطهم، ومعاملاتهم، كلّها على البطلان، حتى يقوم دليل على الصحَّة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحَّة شرطِ، أو عقدٍ، أو معاملةٍ، استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم، بلا برهان من الله، بناء على هذا الأصل! وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط: الصحة؛ إلا ما أبطله الشارع، أو نهى عنه. وهذا القول هو الصحيح؛ فإن الحكمَ ببطلانها
(١) "أعلام الموقعين" (٣/ ٩٨ - ٩٩ ط. دار ابن الجوزي).