وهناك، فأعوز رجل حديد الإرادة مثل عبد المؤمن وأين نحن من عبد المؤمن وأين عبد المؤمن منا؟ وأنت خبير بمصائر الدول حين تصل إلى هذا الحد من الاختلال وسوء الإدارة، ولا تجد من يأخذ بضبعها، ويضطلع بتدبير شؤونها، فلا أسترسل في الحديث عن ذلك التدهور الفظيع، والسقوط السريع.
إنما الذي يستوقف النظر، ويسترعي الفكر، هو سرعة انقراض هذه الدولة واستيلاء الضعف عليها أعز وأقوى ما كانت، فما هي إلا غدوة إلى الأندلس أو روحة، حتى أقضي كل شيء، ودخلت دولة الموحدين فجأة في دور الاضمحلال والعدم، فأديل منها بنو مرين الذين عاجلوها فأجهزوا عليها قبلما تتمكن من رأب صدوعها وعلاج أدوائها.
وفي الواقع إنها لفرصة نادرة اهتبلها هؤلاء البدو النازحون إلى المغرب من الصحراء، قصد الإمتيار والتربع مراعيه الخصبة، على عادتهم في كل سنة، حينما تجدب أراضيهم، وتصوح نباتاتهم. فما أن دخلوا المغرب هذا العام، حتى وجدوا المعالم قد تبدلت، والمشاهد قد تغيرت، وخلت الأوطان من السكان وبقيت الحقول والمسارح هملاً من غير راع، ولا متعهد، فنمت وربت. وكأنما كانت تعرف ما سيؤول إليه أمر هؤلاء الغرباء، فأوتهم إلى ظلها، وبسطت لهم أكنافها فنزلوها وتقروها، وطاب لهم بها المقيل، فسمع بهم بقية إخوانهم، فنسلوا إليهم من كل حدب، وأقاموا معهم بغتبطين بما يصادفونه من الخصب والرخاء والعيش الرغد. على هذه الصفة كان دخولهم أولاً إلى المغرب، ولما استقر بهم المقام، ولم يجدوا من يقف في وجههم ويصد عاديتهم عن البلاد، شجعوا وأقدموا على شن الغارات والإجلاب بخيلهم ورجلهم على الحواضر والبوادي، ومن هذا الوقت نشأت عندهم فكرة الاستيلاء والتغلب على المغرب، فاقبلوا يعملون على تنفيذها وتحقيقها. وكذا الحوادث التاريخية الكبرى تبدأ عادية بسيطة ثم لا تزال تنمو وتستفحل حتى يعظم قدرها ويجل خطرها.
ولم تكن هذه القبائل؛ بنو مرين وزناتة عموماً، في بلادها فوضى لا نظام لها ولا قانون، بل كانت خاضعة لأحكام الشرع الشريف في معاملاتها وأحوالها الشخصية، وكانت تقيم على رأسها زعيماً كسائر القبائل، يسمى بالأمير تحقيقاً