دامت دولة الموحدين إلى آخر أيام الناصر ولد المنصور، وهي مثال القوة والعظمة، وجلال الشأن، ورفعة السلطان، ثم أخنى عليها الذي أخنى على لبد، وجرت فيها سنة الكون، فتداعت أركانها، وتقوضت دعائمها، وسرعان ما سقطت من حالق العز إلى حضيض الهوان.
كان فاتحة ما أصابها من الكوارث، وقعة العقاب المشؤومة، التي تألبت عليها فيها دول النصرانية بحذافيرها، ودحرتها اندحاراً شائناً، بسبب ضعف القيادة وعدم اجتماع كلمة الرؤساء والمحاربين من جراء غرور الناصر وخيانة الأندلسيين له. فهو قد اغتر بكثرة ما حشده من الأجناد، وجمعه من الأعداد فلم يأبه لمقاتلة الأندلس الذين كانوا أعرف من غيرهم بثغور العدو، وأبصر بمواطن الضعف من بلاده. وهم حيث لم يستشعر وجودهم، ولا عرف فضلهم، عزموا على عدم مناصحته، وبذل المعونة له؛ وهكذا وقعت الكرة على المسلمين وبقيت هذه الوقعة عبرة للعتبرين.
ثم فشت بعد ذلك جملة أمراض في جسم الدولة، ومات الناصر مكبوتاً مغموماً، فانتثر بموته عقد رجالات الموحدين، وظهرت خيانة رؤسائهم في إقامة ولده المستنصر مقامه، وكان دون بلوغ ليتمكنوا من الاستبداد به، والضغط على إرادته، كذلك ظهرت طباعية الولاة الذين أطلقوا أيديهم في أموال الرعية وأمتعتها، ونبغ دعاة الفتنة في كل صقع وقبيل، وسلك المفسدون إلى الشر كل سبيل. أما الأندلس فلا تسل عما نزل بها من الويلات والمحن، إنه انقسمت على نفسها، وتغلب الأشقياء فيها على الأطراف، وانبرى العدو إليها ثانياً يسوم أهلها الخسف والعذاب. وأما إفريقية فقد ابتدأت تستعد للانفصال تحت رئاسة الموحدين الذين كان عبد المؤمن أقطعهم فيها الإقطاعات، وسوغ لهم بها الجبايات فشاءوا الآن أن يجازوه جزاء سنمار، بجحد نعمته، وتفريق وحدة مملكته.
وبالاختصار فقد كثرت الفتوق في جسم الدولة، وتعددت الاضطرابات هنا