بذرت بذور النهضة العلمية الكبرى التي نمت وترعرعت على عهد الموحدين في أيام المرابطين. وكانت الغاية المتوخاة من حركة عبد الله بن ياسين هي نشر الدين والتمكين لتعاليمه السمحة من النفوس؛ فاستتبع ذلك رفع راية العلم والعرفان، ضرورة أن الدين الإسلامي والمعرفة متلازمان. ولما قام المهدي بن تومرث بحركته كان يرمي إلى غاية أبعد من غاية سلفه وهي تجديد الدين. وهذه مهمة تقتضي من التوسع في العلم أكثر مما يقتضيه نشر الدين، فلذلك كانت العلوم على اختلافها من عقلية ونقلية ألزم للدعوة الموحدية من أختها المرابطية بطبيعة الحال.
وبكل اعتبار فإن الأساس الذي وقع عليه البناء في هذا العهد هو من وضع المرابطين. فقد كانت تلك الحماسة الدينية وما صحبها من الإقبال على طلب العلم ولو الديني فقط؛ مما دفع بالناس إلى حب البحث والاطلاع، وأدى إلى الاحتكاك بالأندلسيين والنقل عنهم. . . وكما أن العرب في العصر الأول أيام حكم الأمويتين بقوا على السذاجة البدوية والفطرة الإسلامية ولم يعنوا عناية كبرى بغير شؤون السياسة والدين، وكانوا يتهيأون بعامل التطور للدخول في غمار المدنية العباسية ويستعدون لها بمختلف العدد والوسائل؛ فكذلك المغاربة في العصر السابق كانوا يتهيأون هذا العصر ويستعدون لاقتطاف أزهاره، واجتلاء أنواره. فما إن أقبلت تباشيره وأناخت ركائبه حتى أخذ كل شيء اتجاهه وجرت الأمور في مجاريها الطبيعية، حثيثة السير ثابتة الخطى نحو التقدم والكمال.
ولنعتبر ذلك في الحركة العلمية التي تعنينا الآن، فهذا علم الفقه على مذهب مالك قد واصل تفرعه وانتشاره كما كان قبل أو أكثر. ونتيجة للتفاعل مع الدعوة الجديدة فقد مال أهله إلى الترجيح والتأويل ونبذوا التعصب لأئمتهم ومشائخهم، وجعلوا البحث والنظر رائدهم في معرفة الحقائق وتقرير الأحكام؛ فرجعوا بذلك إلى أصوله ومصادره الأولى من الكتاب والسنة وما إليهما، حيث وجدوا من الدولة العتيدة ميلاً