لو صح ناموس النشوء والارتقاء وكان كل شيء في هذا الوجود مطرداً مستمراً يتصل أوله بآخره، وترتبط أطرافه بعضها ببعض، لكان للمعارف اليوم في بلاد المغرب شأن غير هذا الشأن؛ إذ قد رأيت ما كانت عليه من التقدم والانتشار في عصر المرينيّين، فما ظنك لو بقيت سائرة نحو غايتها القصوى من التكمّل والنماء منذ ذلك العهد إلى الآن؟
ولا نقصد أنها في هذا العصر تقصر عما كانت عليه في العصر السابق أو تقل عنه شأناً، وإنما نتأسف للوقوف الذي اعتراها في تلك الفترة التي كانت الدولة الوطّاسية مسيطرة فيها على المغرب والتي لم تذق البلاد فيها طعم السلم والراحة، حتى كاد اليأس يستولي على النفوس، لولا أن تدارك الله هذه الأمة بضم شملها واجتماع كلمتها على يد زعيم هذه الأسرة السعدية المباركة كما سبق القول.
وحينئذ بعد استقرار الأحوال ورجوع الأمن إلى نصابه، عاد لكل شيء رونقه وبهجته، وأقبل كل على شأنه. ورجال العلم أيضاً أخذوا في إحياء ما اندثر وجمع ما تبعثر من سالف ذلك المجد العلمي والتاريخ الأدبي؛ فلم تنشب حركة العلوم والآداب أن عاودها النشاط والانتعاش، وخصوصاً بعد ما أنست من الملوك السعديين وعلى رأسهم المنصور الذهبي ذلك التعضيد الذي سبقت الإشارة إليه.
بيد أنها إن كانت نهضت من جديد فإنها لم تعدم ما يقعد بها عن استئناف السير إلى الأمام، نتيجة للركود العام الذي أصاب الحياة الفكرية، فمنذ هذا العهد في سائر بلاد الإسلام؛ فقد أصبح العلماء وأكثرهم نشاطاً وأعظمهم اجتهاداً هو من يقف عند الغاية التي وصل إليها من قبله في هذا العلم أو ذاك ومن يجتز المقررات التي وقع الفراغ منها قبله. فإن أظهر براعة وأبدى تفوقاً ففي هذه