موفقاً بين النظام المستعجم الذي جنح له أخوه المعتصم، وكرهه الناس وقوفاً مع العوائد، والنظام العربي الذي كان قبله؛ فجاء في غاية ما يكون من النظام والترتيب. وسيأتي وصفه في قصائد شعرائه في قسم المنظوم- إلى تنشيطه للصنائع الوطنية بأنواعها وإدخال ما لم يكن معروفاً منها قبل، وتعضيده للفلاحة الذي أتي بأحسن النتائج، حتى في أنواع المزروعات التي لم يسبق للبلاد بها عهد، كقصب السكر الذي نجحت زراعته نجاحاً كبيراً، مما أدى إلى إنشائه لمعاصر السكر العديدة في بلاد سوس ومراكش والغرب، حتى كثرت هذه المادة الضرورية بالمغرب ولم يبق لها ثمن، فكانت أكثر صادراته إلى أوروبا وغيرها. وكان يبادل الإيطاليين بها الرخام- إلى غير ذلك مما يطول تتبعه.
ولا يمكننا أن نأتي في هذه النبذة على وصف ضخامة ملك أبي العباس المنصور وحسن سيرته، وإنما حسبنا أننا أشرنا إلى لمع من ذلك. ويقال بالجملة إن أيامه كانت غرة في جبين التاريخ المغربي، وإن الدولة السعدية لو لم تنجب إلا إياه لكفاها فخراً. على أن الدهر الخؤون لم يلبث أن أعلن حربه عليها بعد وفاة المنصور فتردت من ذلك العلو الشاهق إلى الحضيض الأسفل.
ومن السخف أن يحاول الإنسان الكلام على حياة هذه الدولة بعد وفاة المنصور وإن امتدت إلى حين. وكذلك نحن ننتهي هنا، وفي اعتقادنا أننا أعطينا القارئ صورة مصغرة من سياسة هذه الدولة وسيرتها في رعيتها التي أولتها قيادها وسلمت لها أمرها عن رضى وطيب خاطر منها؛ فلم تخيب فيها ظنها، وأتت بما يتناسب مع طيب عنصرها وشرف أصلها، إلا ما كان من أفراد قليلين لا يمكن أن يؤخذ الأبرياء بذنبهم، وهم فوق ذلك شبان أغرار لم يصدروا في شيء من أعمالهم عن خبث نية أو سوء قصد.