للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجوده وحلمه وأخلاقه العالية التي لا يمكن تعدادها هنا، فناهيك به من يوم اجتمعت فيه أسباب الفرح، وغابت عنه موجبات الترح.

وماذا أحدثك بعد عن سيرة هذا السلطان وما بلغه المغرب في أيامه السعيدة من القوة والعظمة والحضارة والرقي والرفاهية والعمران? لقد كان المنصور بحق واسطة عقد الملوك السعديين، وقد رأيت أنه لم يكن فيهم إلا فاضل ابن فاضل، ومن ينشد مع القائل:

إذا سيّدُ منا خلا قام سيد ... قؤول لما قال الكرام فعول

فالمنصور كان عالماً إلى درجة الاجتهاد، وإلى أن جزم علماء عصره بأنه المجدد في القرن العاشر. وكان أديباً شاعراً كاتباً سابق فحول الصناعتين من أدباء دولته، وكان سياسياً محنكاً وقائداً شجاعاً وإدارياً منظماً ومصلحاً اجتماعياً كبيراً. وبالجملة فلقد اجتمعت فيه أوصاف الزعامة وأشراط الإمامة، حتى لقد كان دماغ الأمة المفكر وقلبها النابض ويدها العاملة.

يكفيك أن تنظر إلى مشاريعه العظام ومآتيه الجسام؛ فمن فتح السودان وتوات وتيكرارين، حتى أصبحت الصحراء الأفريقية كلها في قبضة يده وتحت تصرفه؛ فاتسعت دائرة نفوذه إلى ما لم يبلغه قبله في هذه الجهة سلطان واكتسبت المغرب بذلك جلالة قدر ورفعة شأن، وجعل يتقلب في النعماء كيف شاء؛ إذ لا يخفى أن هذه البلاد الشاسعة كانت تحتوي على منابع الثروة الطائلة، وكنوز الغنى الوافر؛ فقد كان الذهب يُجبي إليه منها بالأعمال، وكان في دار سكة المنصور أربع عشرة مائة مطرقة كل يوم تضرب الدينار الوهاج، وهذا غير المصوغات والحلي، ولذلك سمي المنصور الذهبي- إلى إحيائه سُنّة المشورة وجعله الحكومة شرعية أشبه شيء بالحكومات الدستورية النيابية، وذلك بفتحه للديوان الشوري الذي كان يعقد مجالسه كل يوم أربعاء من الأسبوع، ويحضره وجوه الأمة وسراتها فيتفاوضون في شؤون المملكة وتدبير سياستها، فلا يقطع في أمر بدون أن يعرف رأي الأمة فيه- إلى بنائه للقصور التاريخية العظيمة كالبديع، وغير القصور من الحصون والجسور- إلى إعادته تنظيم الجند من جديد

<<  <  ج: ص:  >  >>