دبت عوامل الانحلال في جسم الدولة الوطاسية وأخذ الضعف منها مأخذاً عظيماً فقصرت سلطتها على حواضر المغرب، ولم يبق لها نفوذ فيما عداها من البلاد النائية، والقبائل العاتية. وقد استنفذ مجهودها واستفرغ قوتها ما كان قائماً بين أفرادها من التنازع على نيل السلطة والاستبداد بصولجان الملك، ثم ما كانت تعانيه من قتال العدو المحتل بالثغور، وخصوصاً القريبة من عاصمة الدولة فاس؛ فلم يكن لديها قوة كافية تمكنها من القيام بدور حاسم في السواحل السوسية البعيدة حيث طغي سيل المستعمرين البرتغاليين، لما عرفوا أنهم بمنجي من طلب رجال الدولة وتعقب آثارهم، ولذلك أخذوا في بناء المعاقيل والحصون والتهيوء والاستعداد لليوم الذي له ما بعده؛ فضاق المسلمون بهم ذرعاً وغصوا بمكانهم من تلك البلاد التي هي حلق السوس وفم عاصمة الجنوب.
ورأت قبائل المصامدة المباركة ذلك فساءها أن يكون عبيدها بالأمس أسيادها اليوم، وأن تبلغ القحة بأولئك البله الأغرار إلى أن يتحدوها في بلادها، ويجرءوا على خطي أسود الشري في عرينها؛ فتقدموا إليهم بنفوس أبية وأنوف حمية. لكنهم لما كانوا يعرفون أن يد الله مع الجماعة، وأن القوة في الاتحاد، أخذوا يبحثون عن ذلك الشخص الذي يولونه قيادهم؛ فسرعان ما أرشدوا إليه فكان هو الشريف أبو عبدالله محمد القائم بأمر الله وكان مقيماً بدرعة، فبعثوا إليه فقدم عليهم. واجتمع فقهاء المصامدة وشيوخ القبائل، وبايعوه فكان هو واضع الحجر الأساسي في بناء هذه الدولة الشامخ، ولقد ساعده الحظ وكتب له الظفر فأجلى الأعداء عن أرض الوطن وزحزح قدمهم التي كانت قد رسخت فيها، فتيمن المسلمون بطلعته وتفاءلوا بطائره.
وكان له ولدان أرضعاً أفاويق النجابة والبراعة، واقتعدا أسنمة النجدة والشجاعة فدعي الناس إلى بيعة أكبرهما وهو أبو العباس أحمد الأعرج الذي دخل مراكش سنة? ? ? وحارب الوطاسيين وجاذبهم حبل السلطة في المغرب زماناً، حتى تدخل الناس في الصلح بينهما فانبرم عقده على أن يكون للأشراف السعديين من تادلة إلى السوس، وللوطاسيين من تادلة إلى المغرب الأوسط. وكان الساعي في عقد هذا الصلح جماعة من العلماء والشرفاء والأعيان. ثم شالت نعامة السلطان أبي العباس الأعرج ونهض أخوه أبو عبدالله محمد الشيخ المهدي، وكان شهماً ذكياً عالي