من طرابلس إلى طنجة، ولا شك أن هذا الكلام إن أريد به الردة الحقيقية، فإنما يتنزل على أقوام من البربر لا على جميعهم، وإن أريد به الثورة والعصيان وشق العصا على الدولة، فهو صحيح في جملته. على أن الخلفاء والولاة الذين تتابعوا على حكم المغرب لما تنبهوا إلى وجوب تعليم المغاربة وتلقينهم مبادئ الدين الحنيف، فرتبوا لهم الأئمة والفقهاء يعلمونهم ويرشدونهم، أمنوا بعد ذلك من انتفاضهم وعرفوا السبيل إلى تفهيمهم حقيقة ما جاءوا به. ومن يومئذ لم تعد ثورات المغرب والحروب التي نشبت بعد، إلا تمرداً على الولاة الظالمين أو فتنة يوقدها ذوو الأغراض من الخوارج وأصحاب المطامع السياسية، ويستغلون فيها المغاربة البرءاء أسوأ استغلال.
وفي الحقيقة إن جناية الخوارج على المغرب لا تعادلها جناية، فإنها تسببت في انقسامه على نفسه، وتسليط بعضه على بعض، مما أدى إلى بقائه زهاء ثلاثة قرون طعمة النيران الحروب وميداناً لتجريب الحظوظ، وهو في كل ذلك إنما يزداد سوء حالة من ناحية انتشار الجهل وعدم الاستفادة، مما أتي به الفاتحون العرب، حملة الهداية الإسلامية ومنورو الشعوب.
وثمة عامل آخر، إلى جانب انعدام الاستقرار واضطراب الأمن، كان له أسوء الأثر في عدم استفادة المغاربة مبكراً من علوم العرب وآدابها وبطء نهضتهم وظهور المثقفين فيهم؛ ذلك هو أن المغرب لبعده عن مواطن العرب الأصلية أو التي توطنوها بعد الفتح الإسلامي، لم يتخذه العرب مقراً لهم ومسكناً؛ وإنما كانوا يحلون في إفريقية وعاصمتها القيروان، التي كانوا هم المنشئين لها والممصرين، أو يجتازونه إلى الأندلس، حيث يجدون أنفسهم في بلاد شبه مستقلة عن قاعدة الخلافة وطائلة السلطان. ولذلك ما لبث الجناحان المغربيان الشرقي والغربي، أن نهضا وحلقا، فتكونت في إفريقية الأغلبية، وفي الأندلس الأموية، حركات فكرية وأوساط علمية وأدبية راقية، بخلاف المغرب الذي لم يكن يستقر فيه إلا أفراد قلائل من الولاة العرب، أو بعض الجنود من جفاة الأعراب الذين ليسوا في قبيل ولا دبير من شؤون الفكر وحياة العلم والأدب. وهم مع ذلك قليل وقليل جداً؛ حتى إن جيش طارق بن زياد الذي فتح الأندلس لم يكن فيه إلا ثلاثمائة عربي أو ثلاثة عشر على الخلاف في ذلك، وهو اثنا عشر ألفاً. . . وقد علمت أن إدريس الثاني استقبل في سنة ١٨٩ هـ وفود العرب من بلاد إفريقية والأندلس وهم نحو الخمسمائة فارس فقربهم واستأنس بهم