للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابن إبراهيم الكدالي التي تمخضت عن دخول عبد الله بن ياسين إلى الصحراء لأعظم دليل على ذلك. وكانت نزعة عبد الله إلى علم الفقه والدين أقوى منها إلى أي علم آخر، بالطبع لأنه كان عالم دينياً، فغلب هذا الميل على الدولة، ومن ثم كان تقديمها للفقهاء واختصاصها لهم دون من عداهم من أرباب المعارف المتنوعة، برغم ما صار إليها من جيوش العلماء والفلاسفة من جراء فتح الأندلس وضمها إلى الأيالة المغربية. ولم يكن هؤلاء يطمعون في القرب من الدولة قرب حظوة على ما يقول المؤرخون؛ إلا أن يتلبس أحدهم بلباس الفقهاء وعلماء الدين كما فعل مالك بن وهيب؛ فرقي إلى منصب وزير لعلي بن يوسف (١). ولكن هذا لا يعني أن اضطهاداً فكرياً كان ينال غير هذا الصنف من العلماء أو إن حقوقهم كانت مضيعة، فإن غاية الأمر أن وظائف الدولة كانت من نصيب رجال الشريعة، وفيما عدا ذلك فإن كل العلماء كانوا قائمين بنشاطهم الفكري لا يعترض سبيلهم معترض. وأي خير في أن تجعل مقاليد الحكم بعد الفقهاء وهم أحق الناس بها وأولى: إذ كانوا حملة الشريعة التي هي قانون البلاد ودستورها المقدس؟

ثم إن اصطناع الدولة لنوع خاص من العلوم كثيراً ما كان ظاهرة ملحوظة في غير ما دولة من دول الشرق والغرب، فلم يعب عليها بل اعتبر من أسباب نهضة ذلك العلم، وخيراً وبركة على رجاله والمشتغلين به. على أن اهتمام المرابطين بعلوم الدين كان يزينه وصف شريف وخلق نبيل هو تشعه بالروح السلفي المتسامح؛ الخالص من شوائب التنطع والتعمق، وعدم مجاراته للخلافات المذهبية والبدع والأهواء التي كانت حينئذ تنخر جسم الوحدة الإسلامية بالشرق. فالعقائد أبسط ما يكون، وقواعد الإسلام وشعب الإيمان كما بينت في حديث جبريل، والزهد والتقشف هما شعار الدولة وطابعها الخاص. واعتبر أنت بأمير المسلمين علي بن يوسف وما كان عليه من متانة الخلق وقوة الإيمان وصدق اليقين والانقطاع إلى العبادة، قبل أن تنظر إلى أبيه العاهل الكبير وهو يعمل مع الخدمة في بناء جامع مراكش ويحمل الطوب والحجر بيده وعلى كاهله إلى البنائين. ويزيد المؤرخون أنه كان


(١) تولى أمير المسلمين علي بن يوسف عرش المغرب بعد وفاة أبيه في سنة ٥٠٠ وله من العمر ٢٣ سنة وتوفي سنة ٥٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>