للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

انتفت بينهم الفوارق السياسية وزالت الحواجز الاصطلاحية، فسكن بعضهم إلى بعض، وتقاربوا واتصلوا لا كما كان تقاربهم واتصالهم من قبل، بل بصفة مجدية ومؤثرة في جميع مناحي الحياة. . فالمغرب يبذل حمايته للأندلس ويدافع عنها العدو المغير، والأندلس تبذل ثقافتها ومعارفها للمغرب، فرجالها في خدمة الدولة، وكتّابها وشعراؤها يزينون بلاط مراكش. وقد فعل الاحتكاك بالأندلسيين الأفاعيل في تقدم الحياة الفكرية بالمغرب ونهضة العلوم والآداب. وكما كانت الأندلس مهاجر من لم تساعده الحال من أبناء المغرب في العصر السابق، صار المغرب مهاجر الأندلسيين في هذا العصر، وأصبحت مراكش حاضرة المغرب يومئذ وكرسي مملكته؛ مهوى أفئدة المثقفين ومطمح أنظار المتأدبين، وفي هذا الصدد يقول عبد الواحد المراكشي في كتابه المعجب: «وانقطع إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين من الجزيرة من أهل كل علم فحوله حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم، واجتمع له ولابنه من بعده من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار».

ولعل في هذا ما يدفع القول بأن غير الفقهاء لم يكن لهم قبول في هذه الدولة، فالأمر على ما يظهر إنما يتعلق بالنفوذ والسيطرة، وتلك هي سيادة القانون التي يمثلها الفقهاء كما قدمنا. على أن غالب أهل العلم والأدب في العصور المتقدمة كانوا من درسوا الفقه وشاركوا في معرفة أصوله وفروعه. ولقب فقيه كثيراً ما كان يطلق على العالم بأي علم كان ولو لم تكن له ممارسة الفقه، فربما عنى المؤرخون الذين يتحدثون عن تقريب الدولة للفقهاء واختصاصها لهم أنها قربت أهل العلم (١) واختصتهم بالرعاية من دون الزعماء واهل العصبيات القبلية كما كان الشأن في الدول التي قبلها بل والتي بعدها وقد قال ابن خلدون في المقدمة: إنما كان القضاء في الأمر القديم لأهل العصبية من قبيل الدولة ومن إليها كما هي الوزارة لعهدنا بالمغرب.

ومهما يكن من أمر فإن علم الفقه على مذهب الإمام مالك الذي سجلنا توطده في العصر السابق قد واصل تقدمه في هذا العصر، وعقدت المجالس الحافلة في كل من


(١) انظر الحل الموشية ص ٥? ففيها غبارات تشهد لما قلناه.

<<  <  ج: ص:  >  >>