دخل الأندلس ورجل إلى الجزائر الشرقية منها طالباً للعلم وأكثر الأخذ فنافت شيوخه على المائة، فيهم القاضي أبو بكر ابن العربي وأبو الوليد ابن رشد الجد وابن عتاب وابن حمدين والمازري وأبو علي الصدفي وغيرهم. وفي قلائد العقيان كتاب توصية به من أمير المسلمين إلى ابن حمدين لما قصده للأخذ عنه. وهذه من المناقب التي تروي المرابطين في الاعتناء بالعلم والاهتمام بنشره.
قال ابن بشكوال: وجمع من علوم الحديث كثيراً وله عناية كبيرة به واهتمام بجمعه وتقييده، وهو من أهل التفنن في العلم واليقظة والفهم.
وبعد عودته من الأندلس أجلسه أهل سبتة المناظرة عليه في المدونة وهو ابن ثلاثين سنة أو ينيف عليها. ثم أجلس الشورى ثم ولي قضاء بلده مدة طويلة حمدت سيرته فيها. ثم نقل إلى قضاء غرناطة، قال ابن الخطيب: وبني الزيادة الغربية في الجامع الأعظم وبني في جبل المينا الراتبة الشهيرة.
ولما ظهر أمر الموحدين بادر إلى الدخول في طاعتهم، ثم انحرف عنهم لما اضطربت أحوالهم بثورة ابن هود؛ فنقلوه إلى مراكش شرداً به عن بلده، وبها توفي سنة ٥٤٤ ومولده بسبتة في شعبان ٤٩٦.
وللقاضي عياض التصانيف البديعة منها إكمال المعلم في شرح مسلم كمل به معلم شيخه المازري. ومنها كتاب الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، أبدع فيه كل الإبداع وسلم له أكفاؤه براعته فيه، ولم ينازعه أحد في الانفراد به ولا أنكروا عليه مزية السبق إليه، بل تشوفوا للظفر به وأنصفوا في الاستفادة منه وحمله عنه الناس فطارت نسخه شرقاً وغرباً. وهو في الحقيقة كتاب فريد، دحض به مزاعم الملاحدة ومطاعنهم على المقام النبوي الشريف، وأتى في ذلك بالعجب العجاب مما لا ينكره إلا أعمى القلب مطموس البصيرة. ومنها مشارق الأنوار في تفسير غريب الحديث المختص بالصحاح الثلاثة: وهي الموطأ والبخاري ومسلم، وضبط الألفاظ والتنبيه على مواضع الأوهام والتصحيفات وضبط أسماء الرجال. وهو كتاب لو كتب بالذهب لكان قليلاً في حقه. ومما قيل فيه شعراً:
مشارق أنوار تبدت بسبتة ... ومن عجب كون المشارق بالغرب