فالالتفات هنا: تنبيه إلى أن قسمة الأرزاق أمر تكفل به - سبحانه- ولم يتركه لأحد من خلقه.
الصورة السادسة: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب: ويمثلون لها بقول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: ٢ - ٦]. فقد التفت - في الآية الكريمة- من الغيبة، في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إلى الخطاب في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وذلك لأنه بدأ الحديث عن الله تعالى معظماً لشأنه، معدداً لصفات عظمته التي توجب العبادة له وحده، فلما حان وقت عبادته خاطبه خطاب الحاضر الذي لا يغيب عنه طرفة عين.
[وجه حسن الالتفات]
رأيت من الآيات السابقة أن مزايا الالتفات لا حصر لها، لأن لكل التفات مزية خاصة يقتضيها المقام.
وقد ذكر الإمام الزمخشري - في الكشاف- من مزايا الالتفات: أن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان أحسن تطرية لنشاط السامع، وأكثر إيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد.
ولكن ابن الأثير لم يرتض هذا القول ورفض أن تكون مزية الالتفات قد اقتصرت على هذا المعنى، وأنه لا يكون إلا لفائدة اقتضته، وتلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، غير أنها لا تحد ولا تضبط بضابط.
والحق أن الالتفات - وإن كانت له فوائد جليلة يقتضيها المقام- إلا أنه - أيضاً - يثير انتباه السامع ويجدد نشاطه للإصغاء إلى تلك الفوائد، فيتقبلها في شوق المنتظر ولهفة المتطلع، فتستقر في قلبه، وتتمكن منه أفضل تمكن.