وتقول في التقديم - في قصر الصفة على الموصوف:"إنما سعيت في حاجتك"، أي لا إبراهيم - مثلاً -، وتقول في قصر الموصوف على الصفة- "مصري قرار العبور" أي: لا سوري - مثلاً - فقد اتضح لك أن الطرق الثلاث وهي:"النفي والاستثناء" و"إنما" و"التقديم" لا ينص فيها إلا على المثبت فقط، فإذا نص على المنفي في أحدها كان ذلك خروجاً على الأصل.
والطريق الثاني: وهو: "النفي والاستثناء": الأصل فيه أن يستعمل في حكم من شأنه أن يجهله المخاطب وينكره ويحتاج فيه إلى تأكيد، أو في حكم من شأنه ألا يجهل ولا ينكر، ولكن نزل منزلة ما يجهل وينكر لنكتة.
ولكن الأصل في إنما - مع أنها متضمنة معنى "ما" و"إلا" على عكس ذلك تماماً، فهي تستعمل في حكم من شأنه ألا يجهله المخاطب ولا ينكره، أو في حكم من شأنه أن يجهل وينكر، ولكن نزل منزلة ما شأنه ألا يكون مجهولاً ولا منكراً لنكتة - أيضاً -، فمثال استعمال النفي والاستثناء فيما شأنه أن يجهل وينكر، قولك لصاحبك - وقد لمحتما شبحاً من بعيد:(ما القادم إلا محمد)، إذا اعتقده محموداً - مثلاً - مضراً على اعتقاده، فيكون قصر قلب، وإذا اعتقده محمداً ومحموداً كذلك فيكون قصر إفراد.
ومثال ما نزل فيه الحكم المعلوم منزلة ما شأنه أن يكون مجهولاً لنكتة، قوله تعالى - في قصر الموصوف على الصفة -: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ}[آل عمران: ١٤٤] أي مقصور على الرسالة، لا يتعداها إلى الخلود، فالمخاطبون - وهم الصحابة رضوان الله عليهم - يعلمون يقيناً أنه - صلى الله عليه وسلم - مقصور على الرسالة، وليس جامعاً للرسالة والخلود، ولكنهم لما استعظموا موته - صلى الله عليه وسلم - صاروا كأنهم يثبتون له صفتين: الرسالة والخلود، لهذا قصر على الرسالة قصر إفراد، ونزل المعلوم - وهو أنه- لا محالة- ميت، منزلة ما شأنه أن يجهل وينكر، فاستعمل فيه النفي والاستثناء.
والنكتة التي دعت إلى هذا التنزيل هي: استعظام الصحابة موته - صلى الله عليه وسلم - والإشعار بأنهم في منتهى الحرص على حياته بينهم حتى نزلوا منزلة المنكرين لموته، فخوطبوا بما يدفع الإنكار المقدم.