للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أرادت أن تسير عليه لأمكنها ذلك، وهذه مبالغة مقبولة؛ لأن الذي سوغها ما فيها من تخييل حسن وهو: ادعاؤه كثرة الغبار وجعله كالأرض في الهواء.

وقد جمع القاضي الأرجاني بين التخييل الحسن ووجود ما يقرب إلى الصحة في قوله- يصف الليل بالطول-:

يخيل لي أن سمر الشهب بالدجي ... وشدت بأهدابي إليهن أجفاني

فقد ادعى الشاعر هنا أن طول الليل وصل إلى حالة أن الشهب أحكمت في ظلماته بالمسامير، وأن أهداب عينيه قد شدت إلى النجوم بحبال؛ وهذا وصف غير ممكن عقلًا وعادة، ولكن الذي قربه من الإمكان هو هذا التخييل الحسن الناشئ عن ادعاء أن هناك حبالًا ومسامير كانت سببًا في وقوف الشهب وشد الأجفان إليها؛ مع دخول ما يقرب إلى الصحة وهو (يخيل) ولهذا كان الغلو هنا مقبولًا.

والثالثة: أن يخرج الغلو مخرج الهزل والخلاعة؛ لأن صاحبها لا يعد موصوفًا بتقيصة الكذب كما يعد في الجد.

وذلك مثل قول الشاعر:

أمر بالكام إن عبرت به ... ... تأخذني نشوة من الطرب

أسكر بالأمس إن عزمت على الشر ... ب غدًا إن ذا من العجب!

فقد ادعى الشاعر أنه يسكر بالأمس إن عزم على الشرب غدًا؛ وهذا امر غير ممكن عقلًا وعادة؛ لما فيه من تقدم المعلوم على علته، غير أن إخراجه مخرج الهزل والخلاعة هو الذي جعل الغلو هنا مقبولًا.

[آراء العلماء في المبالغة]

للعلماء- في المبالغة- آرا ثلاثة:

الرأي الأول: أن المبالغة مقبولة مطلقًا سواء أكانت تبليغًا أو إغرافًا أو غلوًا لأنها واردة في كلام الله تعالى، وكلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفصيح كلام العرب.

وهذا من شأنه أن يتيح الفرصة أمام الكتاب والشعراء- لا تساع مجال القول- أن يبدوعة، ويكثروا من اختراع الصور البيانية.

<<  <   >  >>