الوقت الذي يرى فيه غيره - من أهل المدينة- ينعم باجتماع شمله بأهله ووطنه، ولهذا فإنه يستشعر الصبر ويأخذ قياراً به - أيضاً -، لأن ما يلقاه الأحياء إنما هو قضاء الله وقدره، والناس يفزعون من النوائب قبل حلولها، وإذا وطنوا أنفسهم عليها لم يجدوا لها ذلك الخوف والفزع، ولا خير في الظن وإنما هو اليقين والجزم وغفران زلة الصديق مما يستبقه ويحفظه.
والشاهد في الأبيات قوله:(فإني وقيار بها لغريب) فلفظ البيت خير ولكن معناه التحسر على الغربة والتوجع من الكربة، وقد حذف فيه المسند إلى (قيار) وكان أصل الكلام أن يقول: فإني لغريب بها وقيار غريب، ولكنه حذف في الجملة الثانية، لأن ذكره في العبارة - بعد دلالة القرينة عليه- عبث واضح، ولأن نفسه تؤثر الإيجاز، لما هي فيه من ضيق وحزن وضجر.
ب- إتباع الاستعمال الوارد: ومنه قول الأعشى:
إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذ مضوا مهلا
أي: إنا لنا في الدنيا حلولاً، وإن لنا عنها إلى الآخرة راتحالا (والسفر: الرفاق) قد توغلوا في المضي لا رجوع لهم، ونحن على إثرهم عن قريب.
والشاهد في البيت الأول هو: حذف المسند الذي هو خبر (إن) إتباعاً للاستعمال الوارد وهو: حذف الخبر عند تكرار (إن) وتعدد اسمها.
ومن حذف المسند لإتباع الاستعمال الوارد قول الله تعالى:{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي}[الإسراء: ١٠٠] فقد حذف هنا المسند إلى ضمير المخاطبين، وذلك لأن (أنتم) فاعل لفعل محذوف دل عليه المذكور، لأن (لو) لا تدخل على الأفعال، وتقديره:(لو تملكون تملكون) مكرراً للتأكيد ولكن حذف الفعل الأول المسند إلى ضمير المخاطبين، لدلالة الفعل الثاني عليه فانفصل الضمير.
ومنه قول حاتم الطائي:(لو ذات سوار لطمتني) فقد روى الأصمعي أن حاتماً مر ببلاد عنزة فناداه أسير لهم أن يطلقه، ولم يكن مع حاتم شيء يساومهم به، فقال: أطلقوه واجعلوا يدي في القيد مكانه، ففعلوا، ثم جاءته امرأته أمة ببعير ليقصده: فقام فنحره، فلطمته، فقال لها ذلك.