للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لما أثبت النبي- صلى الله عليه وسلم- لنفسه، أنه أفصح العرب، أشعر بهذا أن هذه الصفة قد كملت فيه؛ فلما عقب هذه الصفة بأداء استثناء- وهي (بيد) - أوهم هذا الصنيع أنه سيخرج شيئًا مما قبل الاستثناء؛ فلما لم يجد إلا صفة مدح أخرى مماثلة للتيى أثبتها وهي أنه من قريش- وقريش أفصح العرب- أثبتها هي الأخرى فجاءت مدحا بعد مدح، فتأكد المدح الأول.

ووجه بلاغة هذا الضرب يرجع إلى الوجهين الأخيرين من ثلاثة الوجوه التي أسلفناها للضرب الأول وهذا الوجهان هما ما يلي:

الأول: أن الأصل في الاستثناء الاتصال، وذكر أداة الاستثناء قبل ذكر ما بعدها يوهم إخراج شيء مما قبلها، وأنه إثبات عيب، فإذا جاء المدح بعدها تأكد المدح الأول لأنه إثبات مدح بعد مدح.

الثاني: أن هذا الخداع اللفظي الذي يأتي به الشاعر أو الأديب من إبهام الذم بذكره أداة الاستثناء، وتلك الخلابة التي يبعثها في أسلوبه بذلك الإبهام مما ينبه السامع إلى الاهتمام بما يقوله، وينشط ذهنه لاستقبال المعاني التي يضمنها مدحه. ولم يتضمن هذا الضرب الوجه الأول الذي أثبتناه للضرب الأول- وهو أنه كدعوى الشيء ببينة- ولهذا كان الضرب الأول أفضل من الثاني، وأبلغ منه.

والضرب الثالث: هو (أن يؤتي بمستثنى فيه معنى المدح، معمول الفعل فيه معنى الذم، فيتفرع للعمل فيه، ويكون الاستثناء مفرغًا) كما في قول الله تعالى: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} [الأعراف: ١٢٦] وكقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [المائدة: ٥٩]؛ أي ما تعيبون إلا أصل المناقب والمفاخر كلها؛ وهو الإيمان بآيات الله فالاستفهام في الآية للإنكار.

[تأكيد الذم بما يشبه المدح]

وهو: أن يبالغ المتكلم في ذمه؛ فيعمد إلى الإتيان بعبارة يتوهم منها السامع في بادئ الأمر أنه مدح، فإذا هو ذم مؤكد.

<<  <   >  >>