للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ودفعة لظلام الليل كأنه يحفز الدجى ويستعجلها، ولا يرضى منها بأن تتمثل في حركتها، ثم لما بدأ بذلك أولاً اعتبره في التشبيه آخراً، فقال: (نطير غراباً)، ولم يقل: (غراب يطير) مثلاً -، وذلك لأن الغراب، وكل طائر إذا كان واقفة هادئاً في مكان فأزعج وأخيف وأطير منه، أو كان في حبس في يد أو قفص فأرسل كان ذلك محالة - أسرع لطيرانه، أعجل وأمد له وأبعد لأمده، فإن تلك الفزعة التي تعرض له من تنفيره، أو الفرحة التي تدركه وتحدث فيه من خلاصه وانفلاته مما دعاه إلى أن يستمر حتى يغيب عن الأفق ويصير إلى حيث لا تراه العيون، وليس كذلك إذا طار عن اختيار؛ لأنه يجوز - حينئذ - أن يطير إلى مكان قريب من مكانه الأول وألا يسرع في طيرانه، بل يمشي على هيئته ويتحرك حركة غر المستعجل.

ألوان التصرف في القريب المبتذل بما يجعله بعيداً غريباً:

قد يتصرف الحاذق بصنعة البيان في التشبيه القريب المبتذل بما يجعله بعيداً غريباً، لا ترتقي إليه مدارك العامة، ولذلك طرق منها:

١ - التشبيه الضمني، وذلك كما في قول أبى الطيب المتنبي مادحاً:

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياءُ

فقد أراد الشاعر أن يشبه الممدوح بالشمس في الإشراق، وهذا تنبيه قريب مبتذل يستوي في إدراكه الخاصة والعامة، ولكن ادعاء الشاعر أن الشمس إنسان يحس ويشعر ويستحى، وكان عليها وقد رأت وجه الممدوح أن تتوارى خجلاً منه لأنه فوقها في الحسن والإشراق هو الذي رفع من قدر هذا التشبيه من القرب والابتذال إلى البعد والغرابة.

٢ - ومن ألوان التصرف في التشبيه القريب المبتذل حتى يصير بعيداً غريباً: التشبيه المشروط وهو المقيد بشرط، والشرط أما أن يكون في المشبه، وإما أن يكون في المشبه به، وإما أن يكون فيهما معاً.

فمن تقييد المشبه قول الشاعر:

يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا

والبدر لو لم يغيب والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذباً

<<  <   >  >>