وللبلاغة في الكلام طرفان: أعلى وإليه تنتهي البلاغة، وهو حد الإعجاز وما يقرب منه، وهو: أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته، وأسفل، وهو: ما إذا غير الكلام عنه إلى ما دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات وإن كان صحيح الإعراب؛ حيث تصدر عن محالها حسبما يتفق من غير اعتبار اللطائف والخواص الزائدة على أصل المراد.
وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة، بعضها أعلى من بعض بحسب تفاوت المقامات ورعاية الاعتبارات والبعد عن أسباب الإخلال بالفصاحة.
وتتبع بلاغة الكلام وجوه أخرى سوى المطابقة والفصاحة تورث الكلام حسناً، وتكسبه رونقاً وجمالاً، وهذه الوجوه هي التي تضمنها علم البديع من محسنات لفظية ومعنوية.
وأما بلاغة المتكلم: فهي الموهبة أو الملكة التي يستطيع بها أن يؤلف كلاماً بليغاً.
ولعلك قد فهمت مما تقدم: أن كل بليغ - كلاماً كان أو متكلماً- فصيح، وليس كل فصيح بليغاً.
كما أنك قد فهمت مما أسلفنا لك: أن البلاغة في الكلام مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره.
وتمييز الكلام الفصيح من غيره منه ما يتبين في علم متن اللغة؛ كالغرابة، أي تمييز السالم من الغرابة من غيره، أو في الصرف، كمخالفة القياس، أو في علم النحو، كضعف التأليف والتعقيد اللفظي، أو يدرك بالذوق كالتنافر.
فما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى المراد هو علم المعاني المراد هو علم المعاني، وما يحترز به عن التعقيد المعنوي هو علم البيان وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته هو علم البديع.