للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فكرروا قولهم الأول. وفي هذا ضرب من التأكيد، ثم زادوا مقولتهم بجرعات أخرى من التأكيد تمثلت في (إن) و (اللام) و (اسمية الجملة) وبقولهم (ربنا يعلم) لأنه لو أخر من ألوان التأكيد، كقولهم: "علم الله، وشهد الله".

وهكذا نجد أن التأكيد يأتي على قدر الإنكار، أو التردد، وأن عدم التأكيد لا يكون إلا إذا ألقى الكلام إلى خالي الذهن من الخير، وإنما سمي هذا الضرب إنكارياً لأنه يلقى إلى المنكر للخبر والرافض لقبوله.

ويسمى إخراج الكلام على الوجوه المذكورة - أعني الخلو من التأكيد لخالي الذهن، والتقوية بمؤكد استحساناً للمتردد، ووجوب التأكيد للمنكر - إخراجاً للكلام على مقتضى الظاهر، أي: الإتيان بالكلام على مقتضى ظاهر حال المخاطب.

[صور إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر]

وقد يأتي الكلام على خلاف ظاهر الحال، فلا يعتد المتكلم بواقع حال المخاطب، ولكنه يجري على أمور اعتبارية يلحظها هو في كلامه، فيجعلها مقامات، ويصوغ عبارته على مقتضاها:

(أ) كأن ينزل خالي الذهن منزلة المتردد، وذلك إذا قدم له في الكلام ما يلوح له بالخبر، فيستشرف له استشراف الطالب المتردد، وحينئذ يحسن تأكيد الخبر له بمؤكد واحد يزيل تردده.

وانظر إلى قوله تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: ٢٧] فمطلع الكلام وهو قوله تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} معناه: لا تدعني يا نوح في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك، وهذا كلام يوحى بالخبر، ويهيئ النفس لأن تظن بأنهم مغرقون، وخصوصاً بعد أن تقدم قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: ٣٦، ٣٧] فقد أوحى الله إليه بأن قومه لن يؤمنوا، ثم أمره بصنع الفلك، فالإيحاء بأنهم لن يؤمنوا إشارة إلى أنهم سيقع بهم عذاب، والأمر بصنع الفلك إشارة واضحة إلى أنهم مغرقون لا محالة.

<<  <   >  >>