أما توجه النفي إلى مقدر هو المستثنى منه، فلكون "إلا" للإخراج، واستدعاء الإخراج مخرجاً منه، وأما كون هذا المقدر عاماً، فليتناول المستثنى فيتحقق الإخراج.
ولهذا كانت قراءة الحسن:{فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}[الأحقاف: ٢٥] ببناء (ترى) للمفعول ورفع (مساكنهم) نائباً للفاعل، وقول ذي الرمة:
طوى النحز والأجراز ما في عروضها فما بقيت إلا الضلوع الجراشع
مراعى فيهما ظاهر اللفظ، مع أن الأصل فيهما هو: التذكير، لاقتصا المقام تقدير (شيء من الأشياء) فيقال في الأول: (فلا يرى شيء إلا مساكنهم) وفي الثاني: (فما بقى شيء إلا الضلوع الجراشع).
ثالثاً:(إنما) وتجيء إنما في المرتبة الثالثة من مراتب أدوات القصر، لأن في تضمنها معنى القصر شيء من الحفاء، لعدم التصريح معها بالنفي الذي يتأتى به مع الإثبات القصر.
على أن دلالتها على القصر بالوضع، فليست في احتياج إلى دليل على أنها تفيد القصر، ومع ذلك فقد قالوا: إنها تفيد القصر لتضمنها معنى (ما وإلا) اللتين هما أدل على إفادة معنى القص للتصريح فيهما بالنفي والاستثناء، ولما كان في تضمنها هذا المعنى شيء من الخفاء فقد استدلوا عليه بما يلي:
أ- ما قاله المفسرون القدماء: وهم أئمة اللغة والبيان الموثوق بهم في معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}[النحل: ١١٥] على قراءة نصب الميتة وبناء حرم للفاعل، فقد قالوا: إن المعنى - على هذه القراءة-: ما حرم عليكم إلا الميتة، وهذا المعنى هو الموافق - في إفادة القصر- لمعنى الآية على قراءة رفع الميتة مع بناء للفاعل، وإن اختلف طريقا القصر في القراءتين، فطريق القصر في القراءة الأولى (إنما) وطريقته في القراءة الثانية: (تعريف الطرفين).
توضيح هذا القول:
أم القراءة الأولى: وهي القراءة الفصيحة "حرم" مبنياً للفاعل مع نصب "الميتة" على أنه مفعول "حرم" وضمير الفعل عائد على الله تعالى و (ما) كافة (إن) عن العمل، والمعنى: ما حرم الله عليكم إلا الميتة.