فلم يبق مني الشوق غير تفكر ... فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا
الشاعر يريد أن يبالغ في فنائه ونحوله، حتى إنه لم تبق فيه مادة سوى التفكير، فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه هو بكاء الدمع، وأراد بالبكاء الثاني: بكاء التفكير، ولهذا فإنه لا يصلح البكاء الثاني بياناً للبكاء الأول لمباينته له.
فذكر مفعول المشيئة في البيت إنما هو لعدم قيام الدليل عليه، وذلك لأنه لو حذف فقيل:(لو شئت بكيت تفكرا) لم يوجد ما يدل عليه، وأوهم أن المراد بكاء التفكر، مع أن المراد هو: بكاء الدمع.
ب- دفع توهم السامع - في أول الأمر- إرادة غير المراد- كما في قول البحتري يمدح أبا الصقر الشيباني:
وكم ذرت عني من تحامل حادث ... وسورة أيام حززن إلى العظم
فالشاعر يذكر فضل أبي الصقر عليه، ومن دفعه عنه عاديات الزمن وحادثات الأيام فيقول:(حززن إلى العظم) كناية عن بلوغها الغاية في الشدة، فحذف المفعول - كما ترى- ولو ذكره فقال:(حززن اللحم) لجاز أن يدور بخلد السامع قبل ذكر ما بعده أن الحز كان في بعض اللحم ولم يصل إلى العظم، ودفعاً لهذا التوهم حذف المفعول، ليدل الكلام على المقصود من أول الأمر.
جـ- إرادة ذكره ثانياً، بحيث يعمل الفعل في صريح لفظه لا في ضميره العائد عليه إظهاراً لكمال العناية بوقوع الفعل عليه، كالذي تراه من قول أبي عبادة البحتري في مدح المعتز بالله:
قد طلبنا فلك نجد لك في السؤ ... دد والمجد والمكارم مثلا
لم يزل حقك المقدم يمحو ... باطل المستعار حتى اضمحلال
أي: إننا أعياناً البحث عن مثيل لك دون أن نعثر على هذا المثيل، فلا نظير لك، لأن شمس حقك أزاحت باطل غيرك.
والشاهد هنا قوله:(قد طلبنا) حيث حذف المفعول، لأن الأصل قد طلبنا لك مثلاً، ولكنه حذف لإيقاع الفعل المنفي على صريح لفظه - كما جاء عليه البيت-