فالقضية الأولى تثبت القطع في ربع دينار، وإن لم يكن قيمة عشرة دراهم، وفي ذلك رد على أبي حنيفة وأصحابه. والثانية تقتضي نفي القطع في أقل من ربع دينار، ولو كان قيمة ثلاثة دراهم، وفي ذلك رد على مالك، وأحمد، وأصحابهما. والحديث بجملته يدل على أن الذهب هو الأصل الذي يصار إليه في معرفة قيمة المسروق، فإنه تحديد من الشارع بالقول لا يجوز العدول عنه، وقوم ما عداه به، ولو كان المسروق فضة. وثانيا: بما رواه النسائي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع يد السّارق فيما دون ثمن المجنّ» قيل لعائشة: ما ثمن المجنّ؟ قالت: ربع دينار. فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد نفى القطع فيما ثمنه دون ربع دينار وأثبته فيما ثمنه ربع دينار بنفيه القطع فيما دون ثمن المجن إذ كان ثمن المجن ربع دينار ببيان السيدة عائشة رضي الله عنها. والحديث صريح في أن العروض إنما تقوم بالذهب من غير نظر إلى الفضة أصلا لأن البيان من السيدة عائشة في حكم المرفوع، فهو تحديد من الشارع بالنص لا يجوز العدول عنه. وأجيب عنه من قبل أبي حنيفة، وأصحابه: بأن التقويم أمر ظني تخميني، فيجوز أن تكون قيمة المجن عند عائشة- رضي الله عنها- ربع دينار، وتكون عند غيرها أكثر، فالاعتماد على قول عائشة يقتضي ثبوت القطع مع وجود شبهة. ورد هذا الجواب: بأن السيدة عائشة- رضي الله عنها- لم تكن لتخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه، إلا عن تحقيق لعظم أمر القطع.. واستدل مالك، وأحمد وأصحابهما، بما رواه مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم» ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قطع فيما قيمته ثلاثة دراهم، ولم يستفسر عن كون هذه الثلاثة تساوي ربع دينار، أو تقل عنه. وذلك يقضي باعتبار القطع في ثلاثة دراهم، وإن لم تساو ربع دينار، وبذلك يخص مفهوم حديث عائشة- رضي الله عنها- ويكون مفهومه: حينئذ لا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار، إلا إذا ساوى ثلاثة دراهم فتقطع. والحديث صريح في أن العروض تقوم بالدراهم من غير نظر إلى الذهب أصلا. وأجب عنه من قبل الشافعي، وأصحابه: بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنما ترك الاستفسار، لأن طرف الدينار في عهده صلّى الله عليه وسلّم: كان اثني عشر درهما، فمعلوم أن ثلاثة دراهم تساوي ربع دينار، وذلك لا يقتضي أن الدراهم الثلاثة معتبرة في القطع، وفي التقويم حتى ولو تغير صرف الدينار، فإنها قضية عين لا عموم لها. واستدل أبو حنيفة وأصحابه، أولا: بما رواه أحمد، والدارقطني عن الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قطع إلّا في عشرة دراهم» . ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نفى القطع في أقل من عشرة دراهم، سواء أكان ذلك الأقل يساوي ربع دينار، أم يزيد أم يقل عنه، وفي ذلك رد على الأئمة الثلاثة، وأصحابهم وأثبته في عشرة دراهم، وذلك-